عدد المساهمات : 371 تاريخ التسجيل : 18/10/2009 العمر : 45 الموقع : www.badda.c.la
موضوع: رحيل قديس عن أيامه ومريديه (سرد ووصف) الأربعاء فبراير 03, 2010 11:33 am
إنها الأيام تمضي وهو يكتب فيها بزمن هو له وحده ، لا شريك له فيه إلا الحالمون في بحر الملكوت ، والذين هم في متارس سجون منفية قابعون ،وينازعه فيها كل من يتفقدون النجوم في الليالي القمراء والظلماء والناس نيام. أيام تغيب في كل يوم من أيامها شمس بزمن معلوم ،وتطحن المادة في كل لحظة من لحظاتها أعصابا في جب مسدود ، تمضي وحال مقاله يصدح: "لا يفل الحديد إلا الحديد "، و حالته النفسية الملتهبة تمضي احتراقا على أحوال التعثر التي لطالما يصم بها أيام زمانه ، وهوالذي يردد كلما حضر إلى مريديه :
"إرادة وعزيمة واضطراب القلب ولوعة العتاب على كل حال..." إنها لوعة تطارده في موقفه من الوجود كما الحرمان الذي بات ظلا يستظل به كل من يحوم في دائرة مسرح شخوصه الكثيرين ، لكنهم بعيدون ... تمضي الأيام و يظل السؤال هو السؤال؛ لم يعم الصمت كل العالم ويبقى الحال هو الحال ؟ لم يغير المقال من لاقط صوت إلى آخر؟ ومن رموز جداريات تشكيلية ضائعة ، إلى أخرى تتغير الألوان وعبارات الأفواه؟ من أقصى الشمال إلى أقاصي الجنوب مل "قديس" من سماع الوعود وبنود مبادرات،وتفاصيل لقاءات مصالحات...وكل ذلك بلا حبل موصول ولا يد ممدودة للضائعين من حيارى دنياه المهووسة،وفي كل مرة يؤجل ميلاد الفرح في قلبه وقلوب مريديه ، فيقتلون بموعد انتظارهم لخبر يقين. يعم الصمت زمن "قديس" ،ولا صوت في الأفق باد إلا موجوع يئن، وثكلى تندب حالها بصرخات مكلومة صداها لا يزال يتردد في كل فج عميق... لقد كل من مشاعر الانتظار الملتهبة شوقا إلى الانعتاق من ربقة تعاسة أيام زمانه ؛ زمن حرمانه المتعاظم مع نظرة الخلاص الجماعي التي يؤمن بها ولا يجد لها طريقا لينجد كل مستغيث ..
تنحجر حناجر آلاف القديسين مثله بعدما تسمع الأموات نداءها الخالد : " أنسكت مرغمين ونشهد مراسيم وأد الطموح ؟ أنحني الجباه والموكب الجنائزي المهزوم يحمل اللواء إلى حفريات أقصى البركة الأسير؟ موكب كله جهل وكفر وعرف وضعف وانهزام واضمحلال وحرمان وعذاب ،ويغيب عنه باسل و فؤاد وابتسام". إنهم وجهاء حضروا من بلاط"الهزيمة إلى الأبد "، عاينوا في صمت وخشوع مراسيم الحفر المقيت لدفن الأنفة والعنفوان؛ وكانو طرفا في طقوس الوأد الأليم ،يومها تكلم " قديس" ملتهبا بحرقة كل موءود من آماله ،وعبست أقداره وتولت عن المحراب، وقال لسيد الأمم الحيران :
"تجاهلك سيدي بنزين على نار".
أيام في يوم من أيامها يحاول السيد كسر رتابة التجاهل ليكفر بعد صمت دهر بليد، وهو يعتقد الكفارة عن زمن الصمت الرهيب:
"نشجب ،سنعقد مشاورات ،سنجتمع ،ندعو،نتفهم... "؛ عبارات يلوكها السيد مرات عديدات ووخز الضمير يخزه كلما عجز عن تلبية النداء وهو يقول بينه وبين نفسه: "مالذنب إن غفا الحق يوما وآخر ، وأنا عن ذلك غضبان؟ " لكن المتعب من قساوة الأيام يصرخ لسيد محكمة أقداره في إصرار؛ أنه " غليلي" زمانه ،يؤمن أن في الكون شمسا ن ؛ شمس الكون وشمس حريته ويطلب لنفسه الإعدام بشمسها... إنها أيام" قديس"... أيامنا الحزينة..؟؟ ، تمضي ونحن معها ماضون و عجلة التاريخ قد علمت معاشر القديسين أن الأيام إنما هي لك يوم وعليك يوما آخر ،ولربما أياما أخرى كما أيام"قديس" الرتيبة. إنها تمر وسنوات القهر تمضي مضاء الجارح يكسر عنفوان الشموخ فيه وفي كل محروم، وآلة الزمان تعتصر فيهم كل جميل وقبيح ، آلة ترضى بكل شيء إلا أن تكف عن الاعتصار المميت ، هو الذي ماانفك يقول: " كذب من قال أن لحياتنا بهجة ربيع ناظرة أورجفة أغصان خريف يانعة أو قطرات غيث شتاء ماطرة، كذب واستمرار جبروت الحديد والدم وسلاسل المادة التي تقيد قلوبنا الكدرة ". في كل لحظة من لحظات الحياة التعيسة أمل من الآمال يقتل و إحساس من الأحاسيس يغتال، كل شيء فينا مصوبة إليه سهام الشكوى والصمت المقيت ، على الجبين كل شيء مكتوب ، وفي نظرة العين الغادرة كل شيء مفضوح، لامجال للسلم ولا للحب ولا للرأفة في حوامة عالمنا التي تطوف بنا من مصر إلى آخر، تحارب الحياة بأنفاسنا التي تخرج من فوهة بركان قلوبنا الملتهبة ، وبطموحاتنا ترمي الآملين في الغد السعيد فتحولهم رمادا ينبعث دخانه في كل حي وكل درب وفي كل شرفة يتربص بها شعور من مشاعرنا المجروحة ،علها تظفر بريح بلا عنوان ولا اتجاه لتكسر من رتابة ريح "شرقية " تخنق تطلعاتنا . إنها الأيام نفسها التي كتب عنها " قديس" في يوم تجرع جرعة عذاب من عذاباتها،وأنصت له فيه - في اتحاد " حلاجي "- مريدوه الذين يشتاقون إلى طلته المقدسة الشحيحة عليهم: "للمعذب غنيمة انتصار لجوء...وحصار له طعنات السنان من كل لسان له مليون طلقة رشاش ترميه في كل حال وعليه عيون وقحة راصدة .. مدمره تقذفه في أرجاء الأركان له لحظات إلهام وعودة إلى الأحزان للمعذب تلك اللحظات قعقعة كلمات ولجلجة خطاب لمشاهد أحزان له المنبر" الجز يري" في غضبة اتصال له السنين العجاف وصنو غير العنوان له الخليل في كل حرف أبجدية وجماعات كلمات منها تأويه وجموع جماهير تحييه للمعذب لسان قلب سلاح وعيون حسان من شرفات الآفاق. له اللحظات الحرة شهاب فدعوها له، دعوه يناجي التاريخ في لحظات انكسار واتركوه ينزف الأحزان لينقش الدماء بالمداد فما للمعذب إلا قلم وقرطاس". كذلك عود القديس مريديه؛ لا يتكلم إليهم إلا تلميحا ونادرا ما يصعد منبره العاجي ليعلن إليهم بيانا من بياناته التي تختزل عسيرة من عسيرات مشوار حياة مكدودي ومحرومي أيامه العسيرة، يصعد إليهم بعدما يبلغ السيل زباه، ليخفف بعضا من معاناتهم وينفس عنهم ولو للحظات ظهر فيها إليهم وتبركوا بطلعته البهية فسكن بعض ألمهم. إنها الأيام المتدافعة بضغطها من كل حدب وصوب ،لاتستثني الصغير ولا الكبير ولا يعرف جبروتها الزمان ولا المكان ، أدبها أدب حزين وأكلها حنظل مرير وشربها غساق وحميم وغضبة الانسان فيها مجرد غضبة حروف وكلمات ... فمن للصغير البريء فيها من الجبابرة إلا أم تبكيه خلف جدران بيت وضيع، وهي الأخرى تبكي حظها من الحياة التي قذفت بها بين أحضان زوج عنيد، ليس له إلا تلك الأم وأب باع القضية وتبادل الحديث مع رؤوس أعداء مصيره على عيون الأشهاد؟ من له فيها إلا قريب خان العهد وضيع الأمانة؟!، لكن له قديس يروي حكاية مأساته بعد أن تفعل فيه الأيام فعلتها المعلومة ويزول من ذاكرة الناس!! أفيعقل أن تشهد أيامنا إلباس البريء مشنقة العذاب ؟ ويهون حر لفحات لظى السجن على جسمه النحيل ؟ أم يعقل فيها ألفة مشاهد قتله أو استغلاله أوحتى المتاجرة به بدم بارد فقد حمرته إلى لون لم أجد له جذرا لغويا في معجمنا المحيط !! أيام يكسر فيها الجبابرة بنكايتهم أجنحة كل ضعيف و في زاوية من زوايا الجحيم يلقون به مذموما مدحورا...، يحبسونه قصرا بين قضبان من نار تهد الأعصاب، ويسقونه الحميم من زنزانة إلى أخرى، وفي كل منها يقاسي آلام العذاب. أيام فقد فيها لسان "قديس" مقود الكلام وضاعت خارطة الطريق إلى حقه فيها، فاستحالت خيالا صداحا يترجمه وقع الصرير على القرطاس ، فيهرع إلى وريقاته وقلمه ليكتب فقط!.... نعم ليكتب دفاعا عن كل صغير وضعيف : " عار عليكم مافعلتم منكر نكير، هز فؤاد الصغير والكبير، فارفعوا الحصار عن قلبه ، وفكوا الأغلال عن قيده ، عار أن لا تمسحوا عن وجهه خريطة الندم وان لا تبعثوا في قلب أمه دبيب الأمل، بحبسكم له قتلتم شوق اللقاء ، وحبستم عن الروح اضطراب القلب ولوعة العناق، به نكستم رايات الود والصلاح ،فارفعوا الحصار عن صبره، ومدوا من خيط الحق ليظهر على الباطل ،وقصروا من خيوط شركم تفوزوا ، واتقوا دعوة المظلوم فلا يمنعها عن الله وساطة ولا حجاب. فإن ربي رب المظلوم وربك يا جبار، يمهل الظالم ويمحق كل بهتان". تلك كانت صرخة غضبه المعلنة على القرطاس لم يجد حتى مأدبة أدب ولا لقاء متأدبين ليعلنها بينهم في خجل موروث، لم يجد إلا معاشر مريديه المسحوقين ليطل بها إليهم في موعد جديد... إنها أيام القسر والسيف والمادة، وكلها تكتم الأنفاس أو تقطع الألسن أو تطحن الأعصاب، أيام بلا أدب ولا شعور ولا أخبار عن ورود فواحة ولا وجود فيها عن نفحة من نفحات اصطحاب أخيار يملكون دليل خلاص.
إنها أيام" الأنا" وما بعدها لا نجدة لألف "آه "أو "آح " القريب ولا البعيد ،أيام قال فيها الملتهب بنارها :"أنا ومابعدي الطوفان!" أيام روى فيها القديس لمريديه - في أطول طلة له عليهم قبل أن يغيب إلى الأبد- عن غربة غريب من مريديه يقطن داخل بلده وبين أهله و إخوته ، روى بعضا مما لاقى ذلك المحروم من محرومي زمانه في الأيام، من صنوف الوجع والحرمان، ما إن يبح به لك لن تتحمله صفحات المجلدات الطوال ولا حلقات مسلسلات عجز المتفرج المتتبع عن عد حلقاته، روى عن غربة مشاعره وضياع هويته وسط زحمة عشوائية وظلمة أفق حياته ... وقد كانت روايته تلك؛ البيان الوحيد الذي فصل فيه القول بين مريديه، وقد كان أشد تأثرا لحالة ضياع مريد من مريديه، فصل الحديث بعد غيبة لقاء طويلة اعتقد فيها الجميع أنه رحل إلى عالم تحكمه القداسة والطهر والنقاء، روى قصة آخر ليلة قضاها مريده بعد أن صعد المنبر وعلامات الوجوم بادية عليه أكثر من سابقات طلاته النادرة ؛ انتحب وقال : " إنها عادة الأيام ..." ثم صمت قليلا والعبرة تخنقه فأردف : " أيامنا الحزينة، أفقدتنا عزيزا تحرق ليلة ليرى يوما جميلا منها، فمات مع انبلاج صبح اليوم التالي، كتب الراحل عنا..." كان القديس يعلو منبره و المريدون مندهشون لحالة التّأثر التي بدا عليها ، وأعينهم شاخصة إليه وآذانهم مصممة على دبدبة واحدة هي تموجات أصوات القديس ؛ ما بين بكاء وانتحاب وصمت ولعنة أقدار. "...كتب بعدما شكى وبعد ما قاسى من الأيام ؛ وغابت شمس يوم من أيام الله ،فأقمرت مع النجوم ساهرا سامرا؛ لأكتب تفاصيل آخر تأملاتي على هامش الحياة ، وكأني به قد أ حس أنها آخر لياليه، فعلى إيقاع نغمات موسيقى مسلسل قومي يدعى "رأفت الهجان"،وتحت وهج ليلة صيفية ببلدته النائية، قضى تلك الليلة متأملا ينزف الكآبة والحسرة ، ويشكو النجوم سر التعاسة وعسر الحال. ظل يطوف برأسه إلى جدران غرفة مبيته ودوامة التفكير تنقله من عسيرة إلى أخرى ؛ وهو يتأمل صورة أبيه وأمه أمام معلق جمعية بلدته للتربية والثقافة والأعمال الاجتماعية ، حيث صور ملتقطة من فوق جبل شامخ لواحات نخيل وجبال تلك الربعة الصغيرة ، حيث مسقط رأسه ونشأته وكل طفولته ، يرمي برأسه إلى الوراء فيقرأ أسطرا في قرطاس مزركش ؛"شهادة الاجازة" ويعلوها في أقصى اليمين بخط كوفي داكن ؛ " المركب الجامعي..لعلوم الحق والانسان"، وتحتها صورة أخيه الصغير المعتقل، وتحت تلك الشهادة المزيجة والمؤطرة بإطار من خشب ذهبي اللون ،توجد معلقة بها صورة للقدس الشريف وأخرى للحرم المكي المبارك ،ومعلق آخر يضم صورة الإخلاص والمعوذتان ،كتب أنها كتبت بخط عربي لاتشبع العين ولاتمل من إمعان النظر إليها بركة وقداسة...". يسترسل القديس والدموع تغلبه :
" ... كان المسكين يطل إلى "الخارج"من شرفة الغرفة التي " يستوطنها" وحده داخل بيتهم المتواضع أشد الوضاعة ،حيث منامه ووحشته وأنسه مع أنسائه من الكتب التي يجلبها من هنا وهناك وقصاصات الجرائد قديمها وجديدها.. . ليجد قلبه في تلك اللحظات يتألم مع ترانيم تموجات تلك الموسيقى التي تبعث في فؤاده الأمل في الانتصار على مصاعب الحياة،موسيقى تلهمه شجاعة" الهجان" الذي اخترق الكيان وأعطى أنموذج التضحية والتفاني في خدمة الوطن، كان أهله كل وطنه دون أن يحس بذلك وكانت المهمة بداخله أعسر من مهمة "الهجان".
تسرح خاطرته طوال ذلك الليل وهو يتساءل في نفسه ؛أيكون مثل " الهجان "غريبا داخل غرفته بداخل بيته ، وغربته كغربته في تلك الديار المسلوبة ؟ وتوقن نفسه أن حالته أسوأ من حالته حيث إنه يعيشها بين أهله وأحبابه وأبناء وبنات موطنه الذي نشأ فيه وحلم فيه بكل أحلام طفولته المنهوكة. رأفت عاش مع اليهود فكان غريبا وسطهم وفقيدنا غريب بين إخوته وفي عقر داره ووطنه، كان يحس دائما أنه ليس عاديا وأنه لا ينتمي إلى عالمهم كلما تذكر كل الأشواط وكل العقبات التي قطعها مثله... على مر سنوات الحرمان التي عايشها من صف إلى آخر حتى وصل إلى درجة موظف قطاع حسده عليها الكثير من القريب والبعيد، موظف بلا وساطة في ربوع تحكمها الطبقية والزبونية وقانون القوي على الضعيف ، مقام اعتبره آنذاك إنجازا يوازي اختراق بطل للكيان، وهو الضعيف بلا وطن ولا هوية تشده إليها ، وابن ضعفاء من ضعفاء البؤس الذي يكتسح أرجاء ديار بلدته القاحلة..." صمت القديس للحظات وناوله أحد المقربين من مريديه كوبا من الماء ثم انتحب مرة أخرى وهو يقول بصوت عال: " إنه اختراق ممزوج بإحساس بالضياع في وحل كان لايتقن المشي فوق تلاله ومنعرجاته الوعرة ،يعاتب نفسه ويعنف عليها في العتاب ويصرخ في وجهه أمام مخيال الانعكاس؛ " لما الشعور بالضياع وغيري ينظر إلى حالي أنه كل النجاح والفلاح..؟ " قد كانت حالة تخط للعقبة لم تطل معها نشوة الانتصار...!! حيث ظلت ردات صدى المخيال تردد في قلبه : " أيكون نجاحي سر غربيتي وتعاستي؟أيكون فقري سبب مأساتي ؟أم هو الجنون والوسوسة من وساوس إبليس؟أم هو التضخيم والتهويل وقوة المبالغة في التأويل لأمور بسيطة وعادية جدا كما يحلو لي القول في كثير من الأمور؟ " ، ليلتها كان قلبه يتحرق آمالا ويتنفس آهات حرى من أعماق صدره الملتهب، يخرجها حرارة تلهب القلب فتزيد من حرارة الجو داخل تلك الغرفة المكفهرة حزنا على حالة ضيفها الحزين. يتمزق قلبه وعقله مشتت بين خياراته ورغباته، وطموحات أحلامه... خيار خلاصه الفردي على حساب الخلاص الجماعي لجموع أحبابه، ورغبة في إرضاء نفوس طموحة معذبة، مقابل إغضاب قلوب تحترق انتظارا لفرصة الخلاص...وجبرا لخاطر كل من ينظر إليه نظرة المنقذ من براثن الفقر والحرمان... طموح البناء على منوال منطقيته وعقلانيته التي تميل إليها نفسه...وطموحات البناء على طريقة الجبابرة من أهله بمنطق "الأدينة"و"سلطة الأعراف" و "اللاعقل" التي لاتواكب حركية تغير عقلانية جيله ، ولاتؤمن بمبدأ خلاف أو اختلاف رتابة الأمس ودينامكية اليوم.. كانت أحلامه كأحلام عصفور جريح ينتظر إقلاعة ناجحة إلى بر أمان ،دون أن تصطاده مخالب نسور كاسرة ، لم تكن أحلامه تتوافق وجشع نسر جارح يتربص به ببيت أهله، نسر ظل حياته ينتظر اقتناص فرص الأبناء والأحفاد ليحقق بها ما تقاعس عن تحقيقه بالأمس البعيد والقريب.. تسرج السيمفونية البطولية الحزينة وتطوى مرات ومرات ، ومع براعة "الشريعيّ" كان الفقيد يمزج بخاطره بطولاته وبطولات" أسطورة الهجان " وبكاء رأفت عند وداع وطنه وأخته"الشريفة"، يتذكر البكاء والغربة ولا إلاه إلا الله محمد رسول الله... ووسط خيوط ذاك التذكر المتشابكة، بات يقارن حالة غربته وحالته، ويتذكر تقرب أهل كانوا بعيدين عنه...ومع اقترابهم كان يزداد تألما وعذابا في ضميره ..كان يرى في اقترابهم أنه نداء؛" نحن هنا، أرفق بنا"، وأنه تعالي نجدة الصغار والكبار؛ "النجدة...النجدة...النجدة.."، ولسان حاله يقول : " أني لست الرحيم ولا الرفيق.. ولا الرؤوف...وما أنا إلا عبد للرحيم الرفيق الرؤوف..."
فما يمنح المحروم شيئا وهو محروم يجتهد في عبادة ربه لجنة موعودة... أفيكون كذلك وهو العبد المؤمن بجبروت قدرته...؟ أم يئد بنفسه فتوة أحلامه ويتركها حية مدفونة في جب مهجور... ؟ " هنالك بكى كل من حضر من المريدين وتمنوا لوعاش يوما آخر ليكافئوه على ما صبر ، وكلهم إلى منبر القديس الذي واصل بعد ان كفكف من دموعه : " اختمرت كل تلك التخمينات في وعيه ولا وعيه ، في عقله وتأثر بها قلبه ،ليجد نفسه يفكر في دوامة لايهدأ دورانها ،ومعها تدور دورة أسطوانة الموسيقى الطافحة غربة واغترابا ...الملأى نضالا وتضحية من أجل استنهاض الهمة لغوث المستنجد من مستنقع الحرمان... لقد نام على تلك العزيمة واستيقظ يقظة جديدة لكنها في عالم آخر... " لقد عاش الفقيد محروما ومات محروما ، إلا من أمنية تمناها على القديس ، وهاهو ذا قد ظهر بعد طول غياب ليحققها له ؛ فيروي قصة ألمه للمريدين علها تكون خير مذكر به بينهم لينال من بركات دعائهم كلما خشعت لهم خشعة أو ارتجفت لهم رجفة .. إنها الأيام ؛ أيام يتصارع فيها صرعاها على الفتات فيقتل الصديق صديقه هجرا وحسدا على " مقام" ، ويجرم فيها الآباء أبناءهم بتهمة" العصيان" ويرفعون أكف الدراعة إلى خالقهم في خشوع : " ربي اهلك الحرث والنسل وشتت الشمل للأبناء لأنهم من الموجوعين الذين يصارعون عسر الحال، عجزوا عن إنقاذنا من براثن الحرمان !!". إنها أيام الجهل والعار والدمار، أيامنا المكفهرة، أيام صارت فيها صلات الأرحام بحال الجاه والمال، إنها أيام اختناق الأنفاس في لقاء الأحباب ... تلك الأيام أيامنا في زمن " قديس "، تمضي ونحن نمضي معها، وفيها ننتظر أملا بارقا عله يصيبنا يوما ببريقه لنشفى من وعثاء كآبة الحال والشكل والمنظر. إنها الأيام ...ولربما تعقبها أخرى من أيام الله ، يظهر فيها القديس بنبرة البشرى والانعتاق ، أيام تنقشع فيها غمة أيام زمن" قديس" ويتراجع فيها عن آخر بيان لمريديه ،أن: "أتركوني وعزلتي يابني الطين فإني في حماكم غريب.. أنا في صمتكم إمام في محراب صلاة... فخفوا واهجروا أرضي فأنتم كالأطياف تطير... ودعوني بين ينابيع الربيع القاحل أتفيأ الظلال ... وأشدوا ... فشدوي لكم عن ماجرحتم بلا طبيب... اتركوني وهمي في دمي... والشؤم في خاطركم يترصد كل جميل ... أتركوني في خاطري أجتاح أحزان أمتي ... وفي وحدتي أعلن بيان الاتحاد.. أتركوني وعزلتي أتأمل ... ففي تأملي نجاحات الأمة وانتصاراتها العديدة ، دعوني وعالمي فإني لعالمكم رافض وعنه راحل." إنها الأيام ! وفي يوم منها رحل "قديس" عن مريديه؛ تعاظمت همومه وهمومهم، لم يعد يقوى على الكلام، رحل دون أن يترك من يخلفه في حكمة النصح والمواساة...، مل من طول الانتظار... فقتل حرقة وهما وغما على مريديه المسحوقين ... رحل "قديس" عنهم لكنهم حفظوا كل البيانات وأخذ كل منهم يتشبه بعزلته عن الأيام و بسلاطة اللسان عليها في القرطاس ، رحل ففقدوا حينا روح قدسيته ، لكنهم اهتدوا إلى سبيله في لعن الأيام ؛ أصبحوا يقترعون فيما بينهم على من يصعد المنبر ليتلو البيان المناسب لعسيرة من عسيراتها. لقد صار كل واحد منهم قديسا في صمت، قديس في كل مجمع يجمعهم من مجامع قداس الحرمان ليشكوا أحوال الأيام!