لايكاد ينسى ذلك الأثر الذي انطبع في مخيلته ؛وعيناه معلقتان بحاجبـيها الآسرين،وذلك الفم البسام وتلك الشفاه المشتعلة حمرة،لم تكن ردة فعلها لما لمحته مصوبا نظراته العاشقة إليها؛إلا ابتسامة تجاوب أنسته كل شيء إلا ماهو فيه من الافتتان؛ظلت عيناه مشدودتان بها ومتابعة قدها الموسوم بالرشاقة و الكمال،ويده ممتدة لتدير المفتاح في سيارته الفخمة؛أما هي فشلت قدماها عن الحركة؛ فبعدما تسارعت دقات قلبها وهي تتنقل بعينيها وتزن لباسة الأنيق وحذاءه اللامع الساحر، نقلتهما في دهشة إلى سيارته الفخمة المغرية.
لحظات صمت و سكون و شلل بدا فيها الزمن وكأنه توقف عن المسير،توقف فيه كل شيء إلا الشرود؛ هو شارد في عينيها العسليتين الموصولتين بروحها المرحة و عالمها المغري،وقدها الذي لم تزده ملابسه الرثة إلا جمالا ولطفا وسحرا،و هي شاردة تـتخيل النعيم و الترف الذي تتصور هذا المحظوظ يلتذ به و يتمرغ فيه .
وكان لهذا السكون أن يتحرك ،و لهذا الصمت أن ينطق،و لهذا الشرود أن يفيق بمبادرة منه:هل لي أن أقلك لأوصلك سيدتي؟وماكادت تصدق أنها المعنية بهذه الخدمة و هذا السؤال، وماكاد يصدق أنها هي الجالسة بجنبه لولا ذلك الصوت الناعم الذي يغازل أذنيه في لطف ودلال قاتل ؛فما هو بالهمس و لا بالجهر؛ و كأنها تخشى أن تدنس صالون سيارته الأنيق الفخم !
وهي تقدﱢم نفسها جال في خاطرها سؤال ضايق أفكارها و تسلسل حديثها:أيكون هذا المترف أعزبا؟كما استبعد جدا هو كذلك أن يكون هذا الجسم في عطالة و أن تكون هي عازبة.
توزعت عيناه بين متابعة الطريق و متابعة شعرها الحريري الذي يداعبه الـهـواء من النافـذة ؛و هي ترقص في إغراء متمرد عن كل قيم وحياء ؛ بعدما آنـست منه و طلبـت منه تـشغيل شـريط أغـنية مرقصة.
ثم غابت ذكرى،فلم يكد يعرف أهي من الحلم أم من الواقع،وظل يتردد على المكان و يسأل الطريق و المارة وفؤاده يقتله الأسف و الحسرة،يضيق كلما دق الأمل ويتقطع ؛وظل ميتا يعيش على الذكرى وغائبا يحضر مع طيفها،حتى بدت له يوما كالخيال تمشى بقدها الراقص دون إيقاع؛فأقسم نجيب ألا يفرط فيها بعد اليوم. ..
*****************************************
وانطلقت أحاسيس الاعـجاب مطردة يوما عن يوم؛ولم تتـرك للعقـل والزمن هذه المرة مجالا حتى ألقت بهـما في،قفص؛الزوجية!
. ولا يكاد حتى الآن ينسى ذلك اليوم الذي فتح باب اللقاء لهما؛وهو الآن في زاوية في البيت كعادته يبتلع بعسر واحدة تلو أخرى من فعال زوجته المسمومة ،وهي الأخرى في زاوية ثانية؛تباعد لايصدق سامع أن يعانيا تحت سقف واحد ؛وحده و الله يعلم كم يعاني من الحسرة و الوحدة الثقيلة ،لولا نعمة الأولاد التي تخفف عنه التجاهل واللامبالاة التي أصبحت زوجته تتقنهما وكأنهما من طبعها،وهكذا غطت غيوم الـــكآبة و التـشنج شمـس ذلك الانشـراح و تلـك السـعادة المـرجوة .
*****************************************
وظل الزوج يتحمل ،ويرجو أن يسعفه صبره، حتى يستريح يوما بما سيجده من أبنائه قرة عينه بعدما نفرت والديه من زيارته فحرمته منهما،وكادت له في أصدقائه حتى قبحتهم فصاروا خونة مصلحيين متكبرين…!
لم يكن لينسى ذلك اليوم ؛و المتاعب مسرفة في التفاقم عليه ؛ ولم يكن لاندفاع الأزمات المفتعلة في البيت أن تنجلي يوما أو تتبخر؛ فوجد الزوج نفسه يوما مغما عليه في انهيار شديد مسبوق بتراخ مخيف استغرق سائر جسده ؛حمل على إثره إلى مشفى ؛ اثبتت تحليلاته ارتفاع نسبة السكر في دمه بشكل رهيب؛ما جعل الطبيب يِؤكد على تنبيه زوجته إلى خلق جو الراحة و الاسترخاء له و اتباع الوصافات الطبية بدقة متناهية صارمة.لكن الزوجة أتقنت تماما عكس كلام الطبيب...
وفي البيت، وهو على هذه الحال، لا يقوى إلا على كلمة ونظرة عين عاطفة تخشى على زوجته الترمل وكرب الليالي وعبث الذئاب البشرية بجمالها الأخاذ؛و تمنى لو يمهله الأجل حتى يكبر الأبناء ويشتد عودهم ليحفظوا أمهم ؛ لكن المرض اشتد عليه فا بيضت عيناه من الداء فهو بصير، وما إن لمحته كذلك حتى نهبت ما نهبت وهربت بأبنائها وانسلت كالأفعى مرددة في جنون مصحوب بضحك هستيري: أوه "لا جمال و لا عينين " قبح و عمى" هذا ما ينقصني... هيا يا أبنائي فلنهرب قبل أن نصطحب العدوى ! فقام مكذبا أذنيه ! ثم هرول مسرعا ومتخبطا يتحسس أثرها وقلبه يعتصره الخوف من فقدان أبنائه آخر أمله من هذه الحياة؛فارتمى فاتحا ذراعيه جهة صراخ ابنه الصغير فعانق الهواء؛ثم عانقته المنية مكبا على رأسه على قارعة الطريق...
=================================================
من توقيع بدراوي عبد اللطيف
[justify]