ما ذئبان ِجائعانَ أُرسلا في حظيرةِ غنم ٍبأفسدَ لها من حُبِّ المال ِوالشرفِ لدين ِالمرء
الحمد لله القائل في محكم كتابه المبين: ( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ{9} قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ {10}) الزمر.
والقائل: ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ{11}) المجادلة.
والقائل: ( لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ {164}) آل عمران .
وفي صحيح مسلم عن نافع بن عبد الحارث الخزاعي - وكان عامل عمر على مكة - أنه لقيه بعَسَفان فقال له: من استخلفت؟ فقال: استخلفت ابن أبزى مولى لنا. فقال عمر: استخلفت مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض. فقال عمر: أمَا إن نبيكم قد قال: ( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين ) .
وإذا كان العلم يرفع أهله فإن إمكانية العُجب, والكبر واردة, فحرص الشارع الحكيم على تحصين النفوس ضد هذه الآفة ومثيلاتها, من مثل :
الرياء والتسميع, والكبر والعُجب, وطلب العِلم ِللدنيا أو كتمهِ, وحب الرياسة وغيرها. وقد ورد النهي الجازم عنها جميعـِها :
1 ـــ فقد نهينا عن الرياء في كتاب الله المبين لقوله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ {5}) البينة.
ولقوله: ( الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ {6} ) الماعون.
وكذلك في سنة الهادي الأمين: فَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ لَهُ نَاتِلُ أَهْلِ الشَّامِ: أَيُّهَا الشَّيْخُ، حَدِّثْنَا حَدِيثاً سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَىَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ، رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا. قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّىَ اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَىَ وَجْهِهِ حَتَّىَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا. قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا، إِلاَّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ: جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَىَ وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ) .
ونهينا عن التسميع في حديث جندب المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم قال: من سمَّع, سمَّع الله به, ومن يُراءِ, يُراءِ الله به .
وقال: ( يكون في آخر الزمان ديدان القراء، فمن أدرك ذلك الزمان فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومنهم، وهم الأنتنون، ثم يظهر قلانس البرود فلا يستحيا يومئذ من الرياء، والمتمسك يومئذ بدينه كالقابض على جمرة، والمتمسك بدينه أجره كأجر خمسين، قالوا: أمنا أو منهم؟ قال بل منكم ) والقلانس جمع قلنسوة, والبُرود جمع بُرد، وهذا كناية عن رجال الدين الذين يتميزون بالقلانس والبُرود بغض النظر عن الشخص الذي تحويه القلنسوة والبُرد. فالإعتبار عند الناس لهذا اللباس, سواءٌ عندهم حوى علماً أو جهلاً, والقلنسوة والبرد هما علامة ُالعلم ِ, وظهور قلانس البرود ورد علامة على عدم الإستحياء من الرياء .
2 ـ ونهينا عن الكِبر والعُجبِ لقوله تعالى: ( وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ{18}وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ{19}) لقمان.
ولقوله عليه السلام: فيما يرويه عن رب العزة جلَّ وعلا في الحديث الذي رواه مسلم والبخاري : ( الكبرياء ردائي، والعز إزاري، فمن نازعني في شيء منهما عذبته ) .
3 ـ ونهينا عن طلب العلم للدنيا أو لمماراة السفهاء, ومكاثرة العلماء لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {174} ) البقرة .
وفي حديث الترمذي عن كعب من مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من طلب العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله النار). في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من سئل عن علم فكتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار )
وذكر الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مثل الذي يتعلم العلم ثم لا يحدث به كمثل الذي يكنز الكنزَ ثم لا ينفق منه .
4 ـ ونهينا عن إتيان أبواب السلاطين, فعن عن أبي هُرَيْرَةَ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ( ... وَمَنْ لَزِمَ السّلْطَانَ افْتَتَنَ. زَادَ وَمَا ازْدَادَ عَبْدٌ مِنَ السّلْطَانِ دُنُوّا إلاّ ازْدَادَ مِنَ الله بُعْداً ) . رواه أحمد .
وعند أحمد بإسناد صحيح عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ستكون أمراء يظلمون ويكذبون وتغشاهم غواش- أو قال: حواش- من الناس، فمن أعانهم على ظلمهم وصدقهم بكذبهم فليس مني ولا أنا منه، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه).
وعن جابر ابن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا كعب بن عُجرة أعاذك الله من إمارة السفهاء، أمراء يكونون من بعدي لا يقتدون بهديي ولا يستنون بسنتي، فمن دخل عليهم وصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا مني ولست منهم ولا يردون على حوضي، ومن لم يدخل عليهم ولم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم وسيردون على حوضي يا كعب بن عجرة الصوم جنة والصدقة تطفيء الخطيئة كما يطفيء الماء النار والصلاة قربان أو قال برهان يا كعب بن عجرة، إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت النار أولى به يا كعب بن عجرة الناس غاديان فمبتاع نفسه فمعتقها وبائع نفسه فموبقها) .
وعن كعب ابن عجرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( اسمعوا هل سمعتم إنه سيكون بعدي أمراء فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، وليس بوارد علي الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم فهو مني وأنا منه، وهو وارد علي الحوض ) .
5 ـ ومن أخطر الآفات التي نهينا عنها نهياً جازماً لأنها تمحق الدين محقاً ! هي ما وردت في حديث عبد الله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)
والذين يعرفون طباع الذئب فإنه لا يقتل ليأكل, وإنما يقتل ما يأكل, وما لا يأكل, فإذا اجتمع ذئبان جائعان في حظيرة غنم فإنهما يقتلان كلَّ ما فيها من الغنم, مع أنهما رُبما أشبعتهما شاة واحدة. فالذئب يختلف عن الأسد مثلاً بأن الأسد يكتفي بفريسةٍ واحدة, لا يقتل غيرها, بل إنه إذا شبع تركها لغيره من العَوافي ــ كالضباع, والثعالب, والكلاب وغيرها ــ .
فكذلك حب الشرف, وحب المال إذا أُطلقا في دين المرء فإنهما يفسدان دينه كما يفسدُ الذئبان الجائعان حظيرة الغنم. أي أن حب الشرف كأن يكون شريف قوم ووجيهاً معروفاً, فيصيبه الغرور بحب السيادة وقد طغت هذه الغريزة عليه, وكذلك حب المال لا يبقيان من دين المرء شيئاً إلاَّ أفسداه. إلاَّ من رحم الله.
وحب المال لا يحتاج إلى توضيح كمن يمدح أميراً من الأمراء السفهاء ليعطيه عطية يشتري بها دينه .
أما الشرف فهو أن يحبَّ أن يشتري بدينه مقاماً رفيعاً في قومه, أي أن يكون شريفاً فيهم. ولربما يكون بين الرجال ساقطاً وضيعاً, فيُهلكَ ويَهلَـك. ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم .