حقيقة اللاحقائق
...في زمن تعالت فيه الصيحات, وتكاثرت فيه الانشغالات, وقلت فيه المصدقيات, وأصبحت النرجيسية تخيم على قلوب الأشخاص والحاجة تحفز سلوكات الأفراد, وأضحت البرغماتية المحرك الأساس لمعظم التصرفات, واعتبرت العلاقات سلع في الأسواق والطرقات , حاولت تسليط الضوء على جانب من جوانب الحياة, وفهم عمق الميولات ولب الاتجاهات ومحاولة للحديث عن حقيقة السلوكات.
فالحياة عبارة عن قطبيات : حب/كراهية ,حياة/موت, صعود/نزول, زيادة/نقصان, حقيقة/خيال..., وكل قطب من هذه الأقطاب يرتبط بشكل خفي بالقطب الأخر, ولولا القطب الأول لما عرفنا القطب الثاني, أي لولا الكراهية مثلا لما عرفنا قيمة الحب,ونحن في اطار العلاقات يمكن لنا الحديث عن الرغبة في توطيد وربط هذه العلاقات في مقابل قطب الكسر أو الفسخ الكامن في جوهرها, فقد يختار الفرد شخصا ما في موقف معين ويناديه بصفة " صديقي " ويتشبت به ويرافقه أعواما عدة ,وهنا نتساءل الى أي حد يمكن أن يكون ذلك الشخص صادقا ؟ أم أنه لجأ الى أسلوب المراوغة والتزوير وتحريف الحقائق من أجل أهدافه ؟
ونحن هنا أمام مفهوم بدأ يتلاشى , مفهوم أضحى مرتبطا بالمنفعة , انه مفهوم الصداقة , فقد علمتنا الحياة أن نختار الصديق قبل العدو , كما علمتنا أن نميز بين الصديق وعابر طريق , وبين الصالح والطالح لكن كيف ذلك ؟ الأمر في حد ذاته صعب , لأن الانطباعات الأولية عن المرء قد تجعلنا نخطئ الغاية , وللحسم في الأمر لا بد لنا من التفاعل مع هذا الشخص فضلا عن تبادل التأثير, وكذا بالأخد والعطاء, وبالقول والرد يمكن لنا أنذاك أن نرى عين الصواب, فإن جاملتك اليوم أسأت اليك غدا , وهنا نطرح اشكالا أصبح منتشرا بين العلاقات الانسانية, فالمرء الذي كنت تصادقه وتضح من أجله , تتوطد العلاقة بينكما وتصبح علاقة منصهرة وعلاقة ذوبان كل واحد منكما في الآخر, لكن بمجرد أن تخطأ في حقه بل أن يسئ فهمك في نازلة ما يتحول الى عدو يشوه صورتك أمام غيرك , وبسهولة نسي كل شئ , خطأ واحد جعل معامل المعادلة هو الصفر, فأين يكمن سر هذا التحول ؟ وأين يختفي مولد هذه الطفرة ؟ سوء تفاهم أدرم النار في الأفئدة فحول الحب الى كراهية وعداوة , فأن تبني علاقة بكل المبادئ والأسس تحتاج الى أيام وسنين , لكن لهدمها تحتاج الى ثوان أو رمشة عين.
فالانسان كائن يصعب دراسته بل يصعب أحيانا فهمه , فعندما يرى الأمور بقلبه تحركه المشاعر والعواطف وكذا الإنفعالات, وعندما يتأمل في الأشياء بعقله فإنه يستمع الى المنطق, أما أن يتحرك بهذه المشاعر وفي الآن نفسه الإحتكام الى المنطق يتمكن من الوصول الى نتائج عقلانية. ونحن نعلم أن الإنسان كل لا يتجزأ,فهو انسان اجتماعي بطبعه , فضلا عن أبعاد الشخصية المختلفة, وكل ذلك يؤثر بوجه أو بأخر في علاقاته بين أبناء جنسه, وبتعبير آخر يمكن القول إن السلوك الإنساني ظاهرة بالغة التعقيد والعمق, فهو تتدخل فيه مجموعة من المؤثرات الوراثية والجسمية والعصبية والكيمائية والحيوية والغدية, فضلا عن الكثير من عوامل البيئة المادية والاجتماعية, ويتأثر سلوكه هذا بماضيه وخبراته السابقة وذكرياته واستعداداته وميولاته ومهاراته, ولا ننسى ما يتسم به من سمات وخصائص الشخصية. ويمكن أن نأخذ كون الانسان مكونا من قلب وعقل ومشاعر, فيختار بملء إرادته الفرد الذي يرتاح له, وبعد سوء تفاهم ينظر الى نفس الفرد بعين ثانية, وهنا أيضا هو الذي أراد أن يكسر علاقته هذه,وبالتالي تعكس لنا المرآة صورة غير واقعية إن لم نقل مشوهة,ونمدح القمر ونصفه بالضياء لكن حقيقة الأمر هي أن القمر يستمد ضياءه ونوره من الشمس . فهل يعني هذا أن الانسان باتخاذه موقف معين يكون في أعماقه راض ومتكيف ؟ أو بلغة التحليل النفسي, ما هي حقيقته الكامنة في اللاشعور ؟