قراءة نقدية للأستاذ عبد الله بادا ( همس الجنوبي) في "يوميات باحث في الأرياف"؛ للكاتب المغربي الأستاذ العلمي الخمري
كاتب الموضوع
رسالة
همس الجنوبي نجم تمزموطي
عدد المساهمات : 371 تاريخ التسجيل : 18/10/2009 العمر : 45 الموقع : www.badda.c.la
موضوع: قراءة نقدية للأستاذ عبد الله بادا ( همس الجنوبي) في "يوميات باحث في الأرياف"؛ للكاتب المغربي الأستاذ العلمي الخمري الإثنين نوفمبر 17, 2014 6:27 am
نص الإنطلاق : يوميات باحث في الأرياف مقدمة لا بد منها ... تتشابه الأحداث وتختلف الشخوص ، وتُجَمِّع الهموم ما تفرق في عالمٍ يموج بشتى ضروب القهر والإذلال ، ويحفَل بطرائفَ وغرائبَ تأتي عفوا من غير تكلف ، واد ٍجارفٌ شعابه وميازيبه الفاقة والحرمان ، ومصبه بحر من الألم الممزوج بعبير النسيان ... من أجل تسجيل هذه اللحظات الفريدة ، ورصد ما خفي عن عيون كليلة عشاها رمد البحث عن لقمة عيش تُختطف من بين براثن الجهل والعَوَز اختطافا ، وتحليل بعض المشاهد التي ما فتئت تعجُّ بها كل رقعة من ربوع الوطن الحبيب ... لهذا وغيرِه كانت هذه المحاولة ، والتي استعارت عنوانها من رائد المسرح العربي توفيق الحكيم ، ولعلي وجدت مسوغا لما وسمت به هذه اليوميات تلك المهمة التي أُنيطت بعاتقي ، بعد أن كلِّفت بإحصاء ساكنة بعض أرياف أولاد علي ، حيث عشنا مواقفَ اختلفت أسبابها وتعدد أصحابها ، بيد أنها تنبع من معين واحد قوامه البؤس والشقاء .. 04 / 09 / 2014 باشوية الكردان ...لاح رشيد كعادته مبتهجا وقد انبلجت أساريره عن بسمة تجلو صدأ الأحزان ، وما إن توسط المجلس حتى طفق يرسل تعاليقه الساخرة ذات اليمين وذات الشمال ، والجمع غارق في ضحك يخفف عنهم وطأة الانتظار..مرقتُ من الحشد مروق السهم من الرمية كي أستفسر المشرف عن إبَّان حزم استمارات الرحيل ... كان الوقت ضحىً حين ضمتنا السيارة بين أحضانها ضمَّ الأم وليدَها ، ثم تهادت تعانق الإسفلت لا تلوي على شيء ، تتعرج في سيرها تكاد تزيغ بنا عن قارعة الطريق ـ..
ريف أيت مبارك أرسلت الشمس خيوطها الذهبية لتوقظ النائمين ، وتداعب جفون الحيارى ، والعصافير تسابق خيوط الريح بحثا عما يسد الرمق، تململت السيارة لتجد لهيكلها وضعا مريحا ، ثم لفظتنا من أحشائها لأَحُل ضيفا على أهل قرية لم تطأ أرضَها قدماي من قبل ، الصمت يلفُّ المكان إلا من تعاليق المراقب حول نذالة سكان البلدة ، وتوسعه في شرح تلك المقولة الشهيرة التي التصقت بأبناء علي وأحفاده : إن باعوا فلا توثق ، وإن صاحوا فلا تصدق! ، ولست أدري ما الذي جناه هؤلاء ، وأيَّ جريرة اجترحت أياديهم حتى علِقت بهم وبأبيهم هذه الأحكام !؟.. وجدنا خديجة في الانتظار ، فاستأذنت لنا أهل الدار ، عبأنا الاستمارة الأولى فكان المنزلَ الأخير في الريف.. قرية لم نستطعم أهلَها غير أنهم ضيَّفونا ، قدموا لنا ما تيسر ، ودلَّ ارتباكهم على فُجْأة الزيارة ، انصرفنا بعد شكر موصول ، أعقبته دعوة مجاملة من غير إلحاح لحضور وجبة الغَذاء ، قلت في نفسي : ربما هي دعوة ألِفوا من بعدها عدم الإجابة ، سيرا على عادة أهل المنطقة ، فقابلنا ذلك برفض تبينتُ أثرَه في وجه الرجل، إذ نطقت سُحنته بارتياح خفي. ريف النوادر ... صراخ الأطفال يمزق أرجاء الزقاق ، وعيون الفضوليين ترقبنا متلصصةً مستفهمة ، أغراس جميلة تزين المداخل ، يفوح شذاها فيضمخ أنوف الزائرين.. بدأت أطرق الأبواب ، والناس ما بين مستقبلٍ باشٍّ باسمِ المُحيا ، وبين عابسٍ يكاد يصُدنا صدًّا لولا بقية من كرم الأجداد ، أو خوف ـ ربما ـ من سطوة سنوات الرصاص ، أو شبح القايد بوشعيب الذي سارت بذكره الركبان.. منازل أوَتنا واقتسمت وإيانا كسرةَ خبز أطفالها ودسمهم ، وأخرى لم نجاوز عتبة بابها، فكانت كما قال أحد الأعراب حين سئل عن إحدى القبائل التي اشتهرت بالشح : جوع وأحاديث... طبائع مختلفة ، ولهجات شتى ، أناس وفدوا من مختلف ربوع الوطن ، واستوطنوا هذا المنبسط زمنَ الخير الذي ساد سوس ، قبل أن ينخر السوس أشجار البرتقال ، ويدحرَ الجفافُ سنواتٍ عمَّ فيها الزرع ودرَّ الضرع ... لقد ألفوا مراتعهم ، فهم يعانون شظف العيش عسى أن تجود السماء ببعض الغمام . اغرورقت عيناي بالدموع وأنا أرقب بعض المشاهد المحزنة ، ركبت السيارة ، انطلقت تمخُرُ عباب الطريق ، وانطلقتْ تلك العبرة التي كنت أحبسها بين المآقي ، بينما انطلق الحاج في قفشاته التي لا تنتهي.. 07/09/2014 ريف الغويبة ...استفتحتُ بابه فلم يتلكَّأْ ، بادر إلى استقبالي ويا ليته ما فعل ! شيخ بلغ من العمر عُتيا ، واشتعل رأسه شيبا ، فغادرتْ فمَه الأسنانُ من غير رجعة ، جثم قبالتي بعد أن رمى إلي بحَشِية اقتعدتها وأسندت ظهري إلى الجدار ، بنية لم تسلخ بعد ربيعها الثالث تغازل جبنة آثرها بها جدها على نفسه ، مائدة حقيرة تتوسط الحوش ، وإبريق شاي تائه بين كأسين .. الصبية تعبث بأغراضي ، وأنا حريص أن أجنب الاستمارة شغبَ الصغيرة وقطراتِ الشاي ، الذباب يقتسم والشيخَ كأسه الأثير ، وأنا أذبه عن وجهي و رجلَيّ .. تبا له من لعين ! ما رأيت أمة ينفعها تفرقها ويضرها اجتماعها غيرَ أمةِ الذباب ، إن تجمَّع تقضي عليه الضربة الواحدة ، وإن تفرق أعيتك المحاولات ! .. بدأت أدوِّن ما يفوه به الرجل ، خائفا من أن يزِل القلم فيحِل الندم.. فجأة ، وبينما كنا نخوض في أطراف الكلام ، امْتشق سلاحه الفتاك منتشيا ، ثم بدأ يتأمل خيوط الدخان الهاربة صوب مصيرها المجهول ، طفقت أندب حظي وقد أُسْقِط في يدي، فلست أدري أأطالبه بالكف عن رشف ذلك الأنبوب الكريه ؟ أم أقوم مغادرا ولما أعبئ الاستمارة بعد ؟ ! غلبني الحياء فصبرت محتسبا ، وما إن أنهيت حتى عدوت مودعا وقد اختلطت علي المشارق والمغارب ، مرت لحظات قبل أن أسمع زعيق السيارة ، امتطيتها عجِلا ولساني يلهج بحمد الله الذي لا يُحمد على مكروه سواه ، غمغمت هامسا بصوت لا يكاد يبين : حسنا فعلتُ حين أجلت وضع الرموز ، وإلا فلا مناص من إعادة تلك الورقة المشؤومة . ارتدت الدنيا عباءتها السوداء بعد أن طاردت خيوطُ الظلام فلولَ النور الهاربة ، فأويت إلى منزلي في انتظار مغامرة جديدة بين أدغال تلك الغابة التي تحولت أشجارها أحجارا ، ورحل عن غياهبها << الحلوف >> ، ليحل مكانه << حلوف >> من نوع آخر ، << حلوف >> ناطق هذه المرة ! ... 10 / 09 / 2104 وتواصل عجلة الزمن سيرها الحثيث ، ويستمر اللف وفق عقارب الساعة ، واليد تقرع الأجراس تارة ، وتطرق الأبواب تارة أخرى ، ويسترسل اليراع في معانقة قرطاسه الأزرق ... لهيب الرمضاء يلفح وجوهنا ، والجوع يعبث بأحشائنا ، عبَثَ الريح بأوراق الشجر ، وترسل الأمعاء صلاتٍ منبهة ، وتحتج المعدة مزبدة مرغية ، جمعت الأوراق وفتحت الأحداق أتبين وصول الركب المصاحب ، بعد هنيهة لاحت تخفضها نِجاد وترفعها وِهاد ، وشخيرها ينبئ بخطر وشيك..عدنا نجر الخطى صوب جمعية السبيل ، هناك تجمْهَرَ أبناء السبيل ، ازدردنا ما تيسر من لذيذ المأكول وسائغ المشروب ، أنخنا مطايانا نستريح من وعْثاء جولة الضحى ، ثم استأنفنا العمل عشِيا... فما اختلف الصباح عن المساء إلا قليلا.. توقفت السيارة وهديرها يشكو إلى ربها تعب الطريق ، ليودعَنا الحاج العربي بعبارته الشهيرة : < تشـــــــــــــــــــاوْ..> 11 / 09 / 2014 فُتِحت لنا الأبواب والقلوب ، تلقيت شكاوى الناس ، عشت أناتِهم وسترت هناتِهم ، أسعدتني آمالهم وأقضت مضجعي آلامهم ، إذ كلما سألت عن الشغل إلا وانطلقت الآهات تترى ، وانفرط عقد الكلام ، فلا زمام يكبحه ، ولا لجام يدير دفة الحوار.. وكأني بهم يخالونني أملك خاتم سليمان ، إذا ما أدرته انقلب واقع الحال رأسا على عقب.. انبرى الليل من جديد يستر منازل الريف ، فتوارت بدورها السيارة ، والسائق لا يني عن سرد فرائده المعهودة.. وتتناسل الأسئلة من رحم المعاناة ، فمن متهكمٍ يستفز الأعصاب الباردة ، ومن مستوضحٍ يكاد يلامس الثرى خنوعا وتذللا ، وأضطر إلى نسج أجوبة ترضي فضول الحيارى ، وتُلجِم أفواه المتفيهقين .. ويستأنف القلم نفثَ دموعه السوداء ، فتزدحم الكلمات والرموز ، وتستمر المشاهد المحزنة ؛ لقد رأيت عيونا ذايلة ، وشفاها يابسة ، وأياديَ نقش عليها الدهر سطورا من الكد و الجِدّ ، امتلأت النفس بالشجن ، فأواسيهم ببضع كلمات علَّني أزيح عنهم بعض المعاناة ولو إلى حين.. انطلق لسان حالي مستعبرا وقد شارفت الجولة على الانتهاء : آهٍ لو تدرك الغزلان والخنازير ما جناه البشر ، لما غادرت مسارحها حيث كانت تنعم بالهدوء والكلأ ، تغدو خماصا وتروح بطانا ، لا تخاف ظلما ولا هضما ، لكن هيهات ، أنى لها ذلك ويد ابن آدم من خلفها تسومها سوء العذاب ؟! تهدم مرابضها وتجْـَتثُّ آجامها ، وتغتال أحلامها ، وتحرمها لذة الاستقرار! . 11/ 09 / 2014 ألقيت بجسمي المتهالكِ فوق ذلك الحصير الذي أعده رب الدار وقد أخذ مني التعب كل مأخذ ، تساءل في دهاء وهو يصب كأسَ شاي يطفئ وقعُه ظمأَ الهواجر : هل سيمنحنا المخزن شيئا عقب هذا الإحصاء ؟ نفحته بعبارات جادت بها القريحة ، وانفضت الجلسة بسلام .. قام الشيخ متثاقلا كأنه ينوء بحمل ثقيل يمطُّ شفاهه مطا ، وملامح وجهه تُنِم عن عدم اقتناع ، انتصبت واقفا أجر خطوي وقد أثر في جنب ألم الحصير.. 11 / 09 / 2014 كم سنك يا خالة ؟ ... فتزيغ عيونها تفتش بين ركام السنين ، جمح القلم ينتظر الجواب ، لتنبريَ حفيدتها قائلة : مائة وعشر سنوات ، قلت مختبرا : ألم تبالغي قليلا ؟ ردت الجدة مستدركة : ربما تسعون سنة ، دونتها في خانة الميلاد مازحا : هكذا توفرون ثمن عشرين شمعة في حفلة عيد الميلاد ، علَت ضحكاتهم لتوفر لي وقتا لوضع الرموز وتعود العجوز إلى سبحتها ، تمرر حباتِها بين الأنامل ، متمتمة بكلماتٍ غامضة تحلق معها إلى عالم ملكوتي يجلل وجهَها وقار الشيوخ ، وقد توسط ذقنَها وشمٌ يدل على جمال ذوى واندثر خلف تجاعيدَ نسجتها يدُ الدهر الماكرة.. اختلط ثغاء الغنم بعويل الصغار وصياح الديكة وفضول الجيران ، سمفونية رهيبة تمجُّها الأذن ويضطرب لها الوجدان اضطرابا ، فأقطر الجواب تقطيرا ، وأُنَقب عنه كمن يبحث عن إبرة في كومة قش ، وأستخرجه من بين ثنايا الكلمات استخراجا ، فما أشبه حالي بحال العالم الذي استخرج الاعتزال من كشاف الزمخشري بالمنقاش !.. 12 / 09 / 2014 جلستْ أمامي القرفصاء وأومأت إلي بالجلوس ، طفقنا نتواصل بالإشارات التي تتمم أطراف الحوار ، فما هي بالتي تفهم عني كل ما أقول ، ولا أنا بالضليع في لهجتها فأحصلَ منها على ما أريد ، فإني أتوهم الجواب توهما ، وأقذف بالكلمات قذفا ، فأدرك بعض المراد ، وأترك بعضه لذكائي ولطائفِ الأقدار.. ويستقبلني رشيد كعهدي به طلْقَ المحيا ، يشنف السمع بطرائفه الممتعة ، وتستمر خلية النحل في إتمام شهد العملية ... امتطيت دراجتي ، أقفلتُ عائدا وقد هدني الكلل ، فاستسلمت لسبات عميق ، لا يعكر صفوه إلا شبح الرموز!. تأليف الأستاذ العلمي الخمري. الكردان 09 – 11 – شتنبر 2014 =============================== القراءة النقدية :
منذ العنوان تتراءى خيارات الكاتب الكلاسية، التي تتوارى خلف تقليد عناوين مألوفة درج القارئ المثقف العربي على تداولها في النصوص التي وشمت رابطته بالكتابة الإبداعية، وكأن التأثير السحري للعنوان لا يزال ممتدا منذ ثلاثينيات القرن الماضي، مخترقا كل الأزمنة والأمكنة، حتى وجد له مرتعا بين سكان سوس، عند كاتبنا العلمي... فمنذ العنوان يسافر المخيال بالقارئ إلى توفيق الحكيم عندما كتب منذ سنة 1937 ،" يوميات نائب في الأرياف "؛ تلك الرواية التي ألفها الحكيم، يسرد فيها مشاهدات من الحوادث والقصص التي عرضت عليه أثناء عمله في القضاء في أحد مناطق الريف المصري، وتدور أحداث الرواية حول معاناة هذا النائب القادم من القاهرة إلى الأرياف، وكيف يمضي وقته في محاربة البعوض والذباب والاصطدام مع المأمور وكاتب النيابة، كما يحرص فيها المؤلف على كشف فساد المنظومة الإدارية وعدم مقدرتها على تحقيق العدل للفلاحين المساكين، كل ذلك في أسلوب فكاهي ساخر. فهل يجاري متنُ علَميِّ المغرب، حكيمَ مصر، وهو ينسج يومياته عن الإحصاء كما نسجها النائب في قضاء مصر؟؟ مقدمة لا بد منها منذ المقدمة، يكشف الكاتب عن هدفه الرئيس من الكتابة، محاولا توجيه القارئ إلى ما لا يجب أن يوجهه إليه، حيث يقيده، بأهداف ومضامين تطالعه من ناصية المؤلَّف دون أن تترك له عفوية اكتشاف خبايا المؤلَّف، واستكناه قدرة المؤلِّف على التعبير عن همومه وانشغالاته التي فضل الإفصاح عنها في قالب سردي وصفي ضمن جنس اليومية... التناص بين اليوميتين بين " يوميات نائب في الأرياف " ، ويوميات باحث في الأرياف "، نوع من " التناص" على مستوى المضامين المعبر عنها، فمنذ ثلاثينيات القرن الماضي، حاول الحكيم انتقاد منظومة البؤس والشقاء الذي طال الفلاحين المساكين من الظلم والطغيان المسلط عليهم منذ عهد مصر العثمانية، وهاهو العلمي يجد أرضا لفلاحين من سوس المغرب ليشغل بها مهمة كما شغلها الحكيم، وليصادف شخوصا وشخصيات، صنعتها أجيال التهميش والإقصاء على هوامش سهل سوس العتيد... فهل سنصادف في يوميات العلمي أشباه؛ الشيخ عصفور(الرجل الشريد الذي يملك أغنية واحدة لا يغني سواها وتلازمه دائما في الحوادث ويعمل فيها كما يعمل المنجمون)؟؟ هل سيلتقي العلمي في يومياته ( ريمًا )، كما التقاها الحكيم؟ أسيحدسنا عن جمالها الذي سحر القلوب؟؟ أيكشف لنا الغموض الذي طال أسباب موتها كما لم يستطع أحد؟؟ أم أننا أمام تيمة موضوعية جديدة، ستميز إبداع العلمي عن الحكيم؟؟؟ وهل سيتخضر كاتبنا المغمور قوالب السخرية من المواقف كتقنية تلطف أجواء السرد، حتى ينساب القارئ بين عتبات يوميته التي تؤطرها تارة أسماء أمكنة، أو أزمنة وأمكنة (باشوية الكردان ، ريف أيت مبارك،04/09/ 2014 ريف النوادر، 07/09/2014 ريف الغويبة )، وتارة أخرى أزمنة محددة باليوم والشهر والسنة (10/09/2014 ،11/09/2014 ، 12/09/2014)؟ أتتجلى الفكاهة الساخرة التي جعلتنا زمنا نسترسل في القراءة دون ملل مع صفحات يوميات الحكيم التي تجاوزت المئة وخمسين صفحة، أمام يومية العلمي التي لم تتجاوز الخمس صفحات؟؟ في مؤلف ابن الشرق؛ علمي المغرب يحل الكاتب باحثا إحصائيا على قضاء أولاد علي بسهل سوس، وهو ابن الشرق الذي سكن الغرب منذ زمن بعيد، مفضلا التحليق بعالمية التواصل والانفتاح علالا شرقيا، يستبطن ارتباطه الوجداني بشرقه في لا وعيه ووعيه!؟؟ وهاهي ذي طلة انفتاحية أخرى عبر يومياته علينا، تاركا السؤال في نفسي، أأستقبل وميض تواصله علميا بلا حدود، أم شرقيا، يحصر النقد في زاوية مغلقة، دون تعمُّق، ولا تشدُّق... أدبية يوميات العلمي
ضمن هذا المركب الاسمي الذي حذف مبتدؤه وبقي خبره شبيها بالمضاف، مردوفا بشبه جملة من الجار والمجرور، تتجلى القدرة الفائقة على الوصف تجليا يُبدي عراقة الكاتب في استضمار أساليب اللغة لكبار المؤلفين، حتى غدا ماهرا أحسن من بعضهم في الاختصاص بعبارات تميزه عن بعضهم، من خلال دقة الوصف المكاني لأرياف " أولاد علي"، والوجداني للقوى الفاعلة في أحداث النص ؛ ( رشيد ، السيارة ومشهد انطلاقها)، يقول الكاتب : " وتواصل عجلة الزمن سيرها الحثيث ، ويستمر اللف وفق عقارب الساعة ، واليد تقرع الأجراس تارة ، وتطرق الأبواب تارة أخرى ، ويسترسل اليراع في معانقة قرطاسه الأزرق ..." يتابع القارئ الوصف الدقيق مشدوها لرصانة لغوية علمية الحبك ، ممزوج بانتقاد ساخر من القوم الذي يلتقيهم بقضائه باحثا احصائيا؛ وفي هذا الصدد نستحضر قوله: " منازل أوَتنا واقتسمت وإيانا كسرةَ خبز أطفالها ودسمهم ، وأخرى لم نجاوز عتبة بابها، فكانت كما قال أحد الأعراب حين سئل عن إحدى القبائل التي اشتهرت بالشح : جوع وأحاديث...طبائع مختلفة ، ولهجات شتى ، أناس وفدوا من مختلف ربوع الوطن، واستوطنوا هذا المنبسط زمنَ الخير الذي ساد سوس، قبل أن ينخر السوس أشجار البرتقال، ويدحرَ الجفافُ سنواتٍ عمَّ فيها الزرع ودرَّ الضرع ... لقد ألفوا مراتعهم ، فهم يعانون شظف العيش عسى أن تجود السماء ببعض الغمام" ، ومع إمعان الكاتب في السخرية من القوم عن قصد أو عن غيره، يجدُه القارئ مقتنعا بشح سكان ريف القضاء الذي أصبح مسؤولا فيه، وقد تجلى ذلك أكثر في حرصه على التعبير شعوريا عن حالة البؤس والشقاء الذي يضمره في شعوره نحوهم دون أن يهتم بالكتابة عنه في حوادث يومية عايشها معهم، أو حتى يسلط على مظاهره آلة التصوير التي يحسن تسليطها بلغته الرصينة المتمكنة، حتى يجعل القارئ مستيقنا حقيقة الحرمان الذي يلف البقاع، إلا أني أجد العلمي رهن نفسه في الكتابة ضمن جنس اليومية التي تقيده بالكتابة عن أبرز الأيام التي تشكل لصاحبها نوعا من التميز في حياته، ولو اختار الكتابة ضمن جنس القصة أو الرواية لأتيحت له فرصة التعمق، والانسياب مع دقة الوصف التي يجيدها علمي المغرب، أهو سوء اختيار الجنس المناسب لكتابة موضوع يحتاج لكثير من التفصيل في أحوال الناس؟؟ أم هي التناصية وحب تقليد الأعمال التي غشت التجربة الإبداعية لكاتبنا حتى أسقطته في تقليد مقيِّد للتجربة الإبداعية العلمية؟؟ ويسترسل التقليد في يومية العلمي، وأنت تقرأ له :" الذباب يقتسم والشيخَ كأسه الأثير ، وأنا أذبه عن وجهي و رجلَيّ .. تبا له من لعين ! ما رأيت أمة ينفعها تفرقها ويضرها اجتماعها غيرَ أمةِ الذباب ، إن تجمَّع تقضي عليه الضربة الواحدة ، وإن تفرق أعيتك المحاولات !" ؛ هنا يسوق العلمي كما ساق الحكيم الذي حارب الذباب والبعوض في القضاء، لنجد العلمي يعلن لعنته على الذباب وهو في قضاء ريف الغويبة، أهي الصدفة ؟ أم عادة المدنيين عندما يحلون أضيافا على الأرياف ؟ أم هو التماهي مع أساليب ومصادفات الحكيم ؟؟ وفي الغويبة نفسها يظهر العلمي متذمرا من شيخ ريف الغويبة : " وبينما كنا نخوض في أطراف الكلام، امْتشق سلاحه الفتاك منتشيا، ثم بدأ يتأمل خيوط الدخان الهاربة صوب مصيرها المجهول، طفقت أندب حظي وقد أُسْقِط في يدي، فلست أدري أأطالبه بالكف عن رشف ذلك الأنبوب الكريه ؟ أم أقوم مغادرا ولما أعبئ الاستمارة بعد ؟ ! غلبني الحياء فصبرت محتسبا، وما إن أنهيت حتى عدوت مودعا وقد اختلطت علي المشارق والمغارب "، أهو الشيخ عصفور الملازم لأغنية واحدة يطوعها حسب الحوادث كما يفعل المنجمون، كما عند الحكيم في يومياته ؟؟ أم أن شيخ الغويبة لازم الدخان حتى غشا عيونه وقلبه وعقله، في حين لزم الشيخ عصفور الفن كما لزم أهل مصر منذ فتوحات نابليون لعقول مصر عندما اصطحب معه آلة الطباعة لتطبع أولى صحائف الوطن العربي وتساهم في صناعة جيل من الفنانين ملؤوا العالم العربي بفنهم؟؟ ثم إن الكاتب لم يحرص فقط على ذم شح آل علي بل أضاف لذلك أوصافا قدحية، عندما غيب الحلوف الحيوان بايقاعاته القدحية عن القضاء، ليسحبها على الإنسان الذي استوطن مواطن الحلوف زمنا، أهو الحرام تفشى في البقاع حتى استضمره الكاتب؟ أم القذارة وكراهة الرائحة التي زكمت الأنوف طيلة اليوميات؟؟ أم هي صولة القلم التي قطعت رؤوس كثير من قيم إنسانية ودينية آمن بها العلمي يقينا ومنهجا في الحياة؟؟، يقول الكاتب : " أويت إلى منزلي في انتظار مغامرة جديدة بين أدغال تلك الغابة التي تحولت أشجارها أحجارا، ورحل عن غياهبها << الحلوف >> ، ليحل مكانه << حلوف >> من نوع آخر، << حلوف >> ناطق هذه المرة ! "، لعمري لهو انتقاد مستبطن لهجوم الإنسان على مواطن الحيوان، وتوسعه على بساتين الخضرة التي وسمت سهل سوس ردحا طويلا، ويا ليت الكاتب لم يقحم الإنسان في سخريته من قدر التحولات الاجتماعية والسكانية، التي طالت سهل سوس عندما تحدث عن رحيل الحلوف" ، " أنى لها ذلك ويد ابن آدم من خلفها تسومها سوء العذاب؟! تهدم مرابضها وتجْـَتثُّ آجامها، وتغتال أحلامها ، وتحرمها لذة الاستقرار!" إن يوميات العلمي، تحمل الكثير من هموم سكان ريف أولاد علي المرتبطة بالرغبة في الشغل، والانعتاق من الحرمان الذي تحس به بعض الأسر التي استوطنت ذاك القضاء، كما تفصح كتابته الساخرة عن حالة من الجهل الذي يلف معتقدات الناس من المحطة الوطنية الإحصائية، وهي تنظر في الكاتب الباحث ملكا لخاتم سليمان السحري الذي سيُعتقهم من براثن الفقر، ما يجعل مهة الباحث الإحصائي أكثر صعوبة، تتجاوز ملء الاستمارات إلى التحلي بكثير من القيم الإنسانية التي تعين على انجاز الواجب بكل حرفية ومهنية وحنكة؛ " طفقت أندب حظي وقد أُسْقِط في يدي، فلست أدري أأطالبه بالكف عن رشف ذلك الأنبوب الكريه ؟ أم أقوم مغادرا ولما أعبئ الاستمارة بعد ؟ ! غلبني الحياء فصبرت محتسبا ... وما إن أنهيت حتى عدوت مودعا وقد اختلطت علي المشارق والمغارب ، مرت لحظات قبل أن أسمع زعيق السيارة ، امتطيتها عجِلا ولساني يلهج بحمد الله الذي لا يُحمد على مكروه سواه ، غمغمت هامسا بصوت لا يكاد يبين : حسنا فعلتُ حين أجلت وضع الرموز ، وإلا فلا مناص من إعادة تلك الورقة المشؤومة " ، " فُتِحت لنا الأبواب والقلوب ، تلقيت شكاوى الناس، عشت أناتِهم وسترت هناتِهم ، أسعدتني آمالهم وأقضت مضجعي آلامهم "، " وتستمر المشاهد المحزنة ؛ لقد رأيت عيونا ذابلة ، وشفاها يابسة ، وأياديَ نقش عليها الدهر سطورا من الكد و الجِدّ ، امتلأت النفس بالشجن ، فأواسيهم ببضع كلمات علَّني أزيح عنهم بعض المعاناة ولو إلى حين " ، مهمة صعبة تلك التي كانت أمام الباحث وهو بين جموع المحرومين، ولو أنه غالبا ما يكتفي بذكر مشاعره نحوهم دون أن ينسج حوادث يومية تثبث عمق بؤسهم، ويظل الكاتب في تصور بعضهم، ممثلا للمخزن قد يجلب وراءه بعض الخير من وراء سؤاله وخضوعه للجواب، عندما فتح باب بيته للسيد الباحث، أو مخلصا من الفقر، بعدما أتيحت له فرصة وفرحة السؤال عنه رسميا بحضور قلم وقرطاس رسمي، كيف لا وبسبب حرمانه منهما صار حاله إلى ما هو عليه من سوء الفهم والتقدير؟؟.. في " يوميات باحث في الأرياف " ، عندما تحدث العلمي في يوميته عن الخالة المرأة العجوز التي " يجلل وجهَها وقار الشيوخ ، وقد توسط ذقنَها وشمٌ يدل على جمال ذوى واندثر خلف تجاعيدَ نسجتها يدُ الدهر الماكرة.." تساءلت؛ أهي ريم العلمي في صورة الخالة، التي رحل عنها الجمال وبقي أثره؟ أهو مكر الدهر الذي قتل جمالها عبر تفاصيل الزمن التي لم تكشف عنها التجربة الإبداعية العلمية، كما لم يستطع الحكيم الكشف عن الغموض الذي طال أسباب موت ريم التي حرمتها يوميات الحكيم من قيمة الحياة التي تمنحنا الجمال؟؟ يوميات عتيقة تعود بنا الزمن القهقرى، إلى ما يقارب قرنا من الزمن، لنجد شيخا عجوزا وامرأة عجوزا يقاربان زمن نشأة اليومية الأولى في مصر العثمانية، دون أن نجد حرجا ولا تجريحا للكاتب وهو يعيد نفس تجربة معاناة المسؤول مع شرائح اجتماعية أعياها الجهل والظلم والتهميش، لتجد من يمتعهم بمواطنتهم يشقى بتواصله معهم، لولا استحضار المجموع التربوي والفكري للمسؤول المثقف الذي يساعده على أداء مهمته في يوميات تفرض عليه الكتابة لتميزها عن حياته الخاصة، ليترك تلك الحياة المتفردة بالسلبية إلى واقع لا يشبهه في درجة السلب ؛ وكذلك غادر العلمي يومياته "امتطيت دراجتي، أقفلتُ عائدا وقد هدني الكلل، فاستسلمت لسبات عميق، لا يعكر صفوه إلا شبح الرموز!" ، فلم يعد بعدها إلا مسؤولا عن فك طلاسيم الرموز التي تعبأت به مهمته كباحث، ونفسيته كإنسان كاتب يستشعر هموم وطنه ومواطنيه، تحت سقف الجهل والتهميش... القيمة الأدبية ليوميات نائب في الأرياف إبداع في العشرية الثانية للألفية الثانية، لشرقي مقيم في الغرب، لأستاذ مغمور، عشق الكتابة وتعشقته في استحياء، وتوثيق لتفاصيل عمل باحث إحصائي في أرياف سهل سوس، ونافذة تكشف حقيقة الواقع ودرجة الوعي بالأنشطة الوطنية التي نتداولها في إطارها النظري دون التداخل مع ايقاعات تفاصيلها الدقيقة وتلقيها المختلف من مواطن إلى آخر، حسب درجة وعيه ، واستعداده للتفاعل الايجابي مع هموم الوطن... هو أيضا نص للمقارنة مع عمل هرم المسرح العربي المرحوم توفيق الحكيم، والوقوف عند تأثير الأعمال الإبداعية الرصينة في لا وعي الناشئة التي نشأت على قيم تلك الكتابات واستضمرت نجاحات تلك الإبداعات، في انتظار التفرد والتميز بتجربة إبداعية تجاوز ما كان مألوفا لوشم تجربة أخرى تُلقي بسَناها فيما يأتي من الأجيال، فهل سيفعلها العلمي يوما بإبداعه يخرجه من دائرة التقليد إلى عالمية الوجود، بعد إنضاج فكرة إبداعية، تجعل العلمي عالميًّا؟؟
قراءة نقدية للأستاذ عبد الله بادا ( همس الجنوبي) في "يوميات باحث في الأرياف"؛ للكاتب المغربي الأستاذ العلمي الخمري