على سبيل الاستهلال:
هاذي الاستهامات الجنوبية نهمسها في أذن كل جنوبي وجنوبية لنستشعر معا ونتألم معا ونعمل معا على تشخيص الداء ونصنع أخلاط وتراكيب الدواء..
ننبش في ماضي وحاضر جنوبيات لنستشرف مستقبلا رحيما بهن..
نكتب لنعزف جميعا سمفونيات درامية تستحث المشاعر وتلهبها حزنا لأوضاع آن لنا أن ننهض لها لمحاربتها...
إليكم أحبائي الجنوبيين أهدي :
مذكرات جنوبية
(رؤية همس الجنوبي لمعاناة جنوبيات)
المذكرة الأولى :يوم جنوبية وليلتها
كوردة ذبلاء تسقى من مياه كدرة لا تتحرك، وكعطر هي حياتها ، لا يفوح بطيب من الرائحة ، فكذلك تربتها وكذلك تفاصيل حياتها، تغدو وتروح عليها الأيام ولا تبصر من خضرة الشجر إلا ما تساقط من ورق على أرضها ، جنوبية في مشاعرها وأحاسيسها شرقية التطلعات والأماني منكسرة لجبروت سيد جنوبي يتفنن في صيد مشاعرها الدفينة وفي جعلها الوسيلة والأداة والمبتغى واللاشيء في كل مركب يسم علاقة " سيد جنوبي " بخادمته وأمته الجنوبية ...
هي " جنوبية " تشوي حرارة المناخ جسدها وبركان عواطفها يلهب كل شوق وكل رغبة وأمل لها في التحرر والانعتاق من سلطة تقاليد عميى على تحسس ما تشعربه وتحس من صنوف الحرمان...
بجسدها الغض النحيف الذي لايقوى على شيء تصارع مهن الحمير والبغال والأحصنة والجمال ، وفي ساعات اليوم الأربعة والعشرين تصنع ألف ساعة وراحة ، شروق يومها مع اشراقة شمس كل يوم ، تتبعها إلى العمل في الحقل شبرا شبرا فذراعا ذراعا وتعود معها وهي لها لحاف لافح ولباس حار بليل عرقا ، هما معا يوميا كما لحاء الشجر الذي لا يفارق سيقان الأشجار الغارقة في وحل الحمري الجنوبي ..عرق عرقا متعلقا بجذور حتى نواة الأرض ، وكذلك تعلق " جنوبية " بالشمس والحقل وزريبة البهائم وبمطبخها الطيني الملطخ بسواد أدخنة الحطب المتصاعد من فواهات ركن النار التي تضع عليها القدر أو فيها الخبز، فتغزل معها أنفها الأدخنة كما تغزل أنف المدخن دخان السجائر ، لتخرج من ذاك القبو ورائحة عرق الحقل وحرارة مطبخها الطيني يمتزجان فيها ومعها ، فتستقبلها طلبات الأبناء والبنات ولعنات استعجال الزوج طقوس إعداد صينية الشاي فالأكل والشرب ولربما استنامة القيلولة التي قد يتعشقها الجنوبي...فيأخرها عن ذلك استشفاؤها المتكرر من لسعات نار المطبخ أحيانا وقضاء حاجاتها أحيانا وإرهاقها مرات أخرى ...
فلا الابناء ولا البنات ولا الزوج ولا أبوه ولا أمه يدرك حجم ما تحسه وتعانيه، فكأني بها خلقت للتعاسة والشقاء ولم تخلق للحب والرفق فلا هي عند الزوج عوان ، ولا عند أبويه ، وهي أم عند الأبناء والبنات قط حينما يطلب منها طلب في شؤون الأكل أو الشرب أو النظافة أو الراحة فيوفر في تفان وإتقان قل نظيرهما عند مثيلاتها من سعيدات الشمال والغرب وبعض من الشرق والجنوب وكأن الشقاء والعسر مكتوب على الاحداثين دون سواهما...
تسلمها لقمة الغذاء الأخيرة مباشرة إلى حنفية ماء تتوسط حوضا إسمنتيا في قاع المنزل ؛ فكأسا كأسا وإناء إناء بين أصابعها المشققة شقوقا شقوقا، والظهر منحن والعرق متقاطر وعبرات من الدمع عصية في عينيها التي حرقت ألسنة النار أجفانها ، وسط صمت في الشفتين ، وزوبعة في التفكير تقيمها في الرأس حتى تشتد فيه الزوابع فتشده بعقال وترمي بجسدها على حصير ممزقة أطرافه وترمي على خصرها المتآكل المستوي مع الأرض ايزارا شفافا يقيها لسعات الذباب التي تعج في كل مكان ...
وما أن تغفو حتى يصدمها عويل أم زوجها تارة أو عكاز أب زوجها تارة أخرى ؛ يصبان كل يوم جام غضبهما عليها ، أن قومي وهيئي ماء الوضوء الساخن لصلاة عصر لا تنهاهما عن الفحشاء ولا عن المنكر ولا تلين قلبيهما لزوجة ابنهما الخادمة الجديدة المرتبة ثالثة في ترتيب زوجات ابنهما العاشق الولهان لافتضاض شرف بريئات يرمون بعيد شهور في أحضان السخرة والحرمان ، فهرب الهاربات أو سخط الساخطات أو صبر الصابرات..
كذلك حال " جنوبية " ، لا يأخذ لها حق لا من أبيها ولا أمها ولا من أخيها ولا من جدها ولا من أي سلطة عرف ولا قانون .. فقد زوجت وكفى وعليها أن تصارع أقدارها .. فقد ماتت من بيت أبيها وجنتها أو نارها في بيت زوجها خالدة فيها أبدا...
وبعد العصر تستقبل من جديد قدر الكسكس وحبات من الجزر والكرنب واللفت تعارك حبة أخرى لتبلبل حبات دقيق يفتل بيديها وراء كل عصر، بعيدا عن أنظار إلا أنظار قطط توعوع ، أو بهائم في زريبة البيت تغثو وتهمهم أو مواء أو هديل يسمع لكائنات الألفة في بيوت الجنوبيين...
تترك حينا عراك حبات الخضر وتترك نار ركن النار بالمطبخ الطيني حكما عادلا ، تصيبها من لهيبها بقدر متساو، وعلى نار هادئة تبقي كلا ، لتخطف ساعة إلى الحقل تجلب خلالها قوتا للبهائم ؛ برسيما أو حشيشا تلتقطه على جنبات سواقي ومصارف جنان القرية هنا وهناك ، ومرات تكون ملزمة بذلك وبحزمة حطب في الرأس وربطة حشيش على الظهر ، فتنقل كلا في انحناء وانكسار لا يريحها منه إلا تحية " جنوبية " أخرى لها ، أو مجمع شكوى " جنوبية " لأخرى - على عجل - لتدرك معركة حبات الخضر في القدر.. وكأنهن منظمة سرية يتفقن خلسة لمناهضة أشكال السخرة والاستغلال التي تخنق راحتهن كل يوم ...
تعود وقد اشتد شوق البهائم إلى طلتها عليهن ؛ أي شوق وأي لوعة لقاء ينتظرها !! شوق دواب بكماء ، لا شوق الزوج ولا الابن ولا البنت ، وتودع بهائمها على أمل اشراقتها عليهن في الصباح الباكر بعد عودة الصباح من جولة الحقول...تودعهن وحوض الماء والكلأ مملوآن...
تدخل مطبخها لتدرك الفورة الأخيرة قبل فورة الزوج العجول لقصعة كسكس يومي يمني نفسه بها كل عشية من يدي زوجته - ممنونا - لا مشكورة!!
فكذلك علاقة " جنوبية " بسيدها الجنوبي ؛ كل الساعات التي تجمعهما من وأذى ، وتهديد بالطلاق لتحل محلها فريسة أيام معدودات ، فخادمة أيام طوال كما حالها...فلا قلب شاعر ولا عقل هاد ولا لسان يريحها بطيب من الكلام..
هي أول المصبحين وهي أول الممسين ، بعد حق نظافة القدر والقصعة وواجب فرش الفرش للصغير والكبير وتهدئة روع المروعين ، وتذويب قرص أو قرصين أو أكثر من أسبرين خاص يحب زوجها تناوله كل يوم...
فتموت المقهورة في فرشها ، فلا صلاة صليت ولا دعاء دعي ولا لباسا لبست ؛ إنما يلبسها إبليس جنوبي من الصباح حتى ممات الليل وتستيقظ عليه مع صيحة أول ديك يصيح وأول شعلة شعالة نار على حطب قرانف النخيل وهكذا يوما بعد يوم ، لكنها تعيش جنة الهدوء والراحة حينما يخلد الكل للنوم إنسا وبهيمة ...فلا تحلم إلا وأنها حظيت بكلمة طيبة من زوجها أو صلت صلاة خاشعة في وقتها أو حظيت بمساعدة من أحد أفراد البيت في النهوض بمسؤولية من مسؤوليات البيت الجنوبي الممتدة طلباته من ماء ساخن للوضوء مرورا بجفنة غسيل مرقد منذ بكرة الصباح إلى ماء بارد للشرب...
ويمزج حلم " جنوبية " بحلم أخرى حظيت بسفر للغرب أو مشاهدة تجارب حيوات أخرى من خلال مسلسلات التلفاز ؛ ليلدن حلما بدخول مدارس محو الأمية ونشر الوعي ، وأحلام في امتلاك مطبخ عصري أو معاملة رئيفة من زوجها ، كما يفعل المكسيكيون أو المصريون أو التركيون أو أناس المدينة على اختلاف فرجات الجنوبيات لما يشاهدن في الفرجة والسفر، فيقارن ذاك بهذا ؛ ما يعمق المأساة ويمد من قعر الجب الذي تحس جنوبية أنه دفنت به ولا ترجو واردا ولا سيارة تمر من جانبها ليمدها بحبل ينقلها منه إلى عزيز يملكها خزائنه وقلبه وعقله ؛ عزيز يلعقها مودة ورحمة سنوات خصب ورأفة ، تنسيها آلام سنين الحرمان العجاف...
تفيق المسكينة " جنوبية " كالذاهلة من حلمها ، فلا رحمة ولا رأفة ولا طيبة ، وما تصبح إلا على صياح ديك وعويل زوج ووكز عكاز يعلن بداية يوم جلد جديد..
وتستمر سمفونية مذكرات جنوبية
وإلى اللقاء بكم في مذكرة أخرى من مذكرات جنوبية
رؤية همس الجنوبي لمعاناة جنوبيات
همس الجنوبي
الجمعة 28/08/2009