مذكرات جنوبية ؛ (رؤية همس الجنوبي لمعاناة جنوبيات) ، المذكرة الثالثة : وداعا رحمة !

مذكرات جنوبية
(رؤية همس الجنوبي لمعاناة جنوبيات)

المذكرة الثالثة : وداعا رحمة !

وجاءها المخاض إلى سقيفة بركن من أركان سَفْلِيَّةِ بيتِهم العتيقِ ، أسرعت الحماة إلى إعداد الماء الساخن ومناشفَ وسكينٍ حادٍّ ... ، وأخذت تستعجل ولدها البكر للمناداة على ولاَّدة القرية التي وُلِد هو نفسُه على يديها الرحيمتين الكريمتين ، وكذلك الجميع من أفراد قريتها ، منها استولدوا أو من غيرها من أخصائيات التوليد من تلك القرى النائية...

آهات الوجع والآي تتعالى من ركن السقيفة مطالبة بإخبار أمها لتسرع في مشاركتها آلام أول ولادة من ولاداتها وهي الطفلة الحديثة السن القريبة العهد بأمها التي كانت لها الصدر الحنون والمَخَدَّةَ الرَّطيبة وهي تعبث لها بخصلات شعرها...
لا أحد من أفراد الأسرة استطاع مواصلة الإغراق في نوم يوم شتوي لادفء فيه إلا دفء الأغطية التي تنادي برودةَ الأجساد لملئِها بدفء رحيم...

والمسكينة بالركن تقاسي البرد والوجع وفَجْأَةَ أول مخاض طمئِنت من كبيرات الدار بأنه تجربة يسيرة وها وليدُك بين حُضنِك تستشعِرين به حنان الأم ولُطفها برضِيعها...

تأخرت الولاَّدة التي يتعثَر عكازها بين أحجار وحصيّات دروب القرية ، والحماة لا تَكَلُّ تُطمْئِن المتوجعة بأن الفرج قريب وعما قليلٍ ستحضر الولاَّدة ، والمسترحِمة لا تفتأ تصيح أريد أمي أريد أمي ، لكن لا أحد قد أجابها لطلبها ؛ أمنيتِها وهي توقن لحظة بعد أخرى أنها لحظة وداع للحياة ...

يستقوي عليها وجع المخاض وهي لا تقوى بجسدها الغض النحيف عليه ، برهة بدأَ الوليد في استقبال الدخول لمعترك الحياة ، لكن آلام الصراخ ووضعية أمه ربما فزَّعاه حتى اختار استقبالها بأرجله راكِلاً لا برأسه مستقبِلاً!!

إنها أول مرة تشاهد فيه الحماة وليدًا يركُل الحياة خارِجًا ، وهي لا تسطيع فعل أي شيء ، وبعدما كانت تطلب من زوجة ابنها المواصلة في " زَحْمَةِ " الولاَدة هاهي ذي اللحظةَ تطالبها بالكفِّ عن ذلك بعدما حيَّرتها حالةُ هذا المخاض العسير ، فأين الولاَّدة الأخصَّائيةُ في طب التّوْلِيدِ؟؟

استَلَّ الطرقُ العنيفُ الحماةَ من دوَّامة حيْرتها وهرَعَتْ إلى الباب تفتَحُه بعدما نسِي ابنُها البِكر مفاتيح الباب داخل البيت وخرج مسرعا مضطربا في استعجال الولاَّدة...

إنها الولاَّدة جاءت ومعها الفَرَجُ طارقًا باب بيتِ متوجِّعةٍ بدأت أنَّاتُها تخِفُّ رويدا رويدا... لتَدارُكِ خطر هذا الاستقبال غيرِ المرغوب فيه للحياة ، بَيْدَ أن الحيرة أخذت منها كلَّ مايلزم من عجلةًٍ وخفةٍ ودقةٍ في تدارُك أمرٍ مستعصٍ لا تنفع معه إلا الدعواتُ الصالحاتُ بأن يَجِيئها الفرج من الخالق الرحيم...

أخذت تباشر عملية توليدها وأرجل الوليد تُفصح أنها أنثى جديدةٌ قادمةٌ لعالم أمها ، لكن القدر شاء لها الرجوع إلى عالم ملائكي دافئٍ حنونٍ ...

وقد عز عليها أنْ تترُك أمَّها في عالمٍ استقبلتْه راكلةً وتوارت عنه رأسًا بالحجاب مُسترحمةً برحم أمِّها حتى اختنقت فتوقف ركلُها للحياةِ ، حينها أيقنت الحماة والولاَّدة أن البقاء لله في المولودة وعمِلتا جُهديهِما في عملية إخراجها ، واحدةٌ منهُن تجُرُّ والأخرى تستغيث الرحمة من الله إلى أن مُلِأَتا دمًا نزَّافاً من متوجِّعةٍ انقطع نفَسُها وهي ترفع سبَّابتها للسماء!!!

ضاع كلُّ شيء ، واحتَار الزوج والحماة فيمن يُخبر أمَّ الفقيدة بماجرى وكيف يخبرونها ، همَّت الولاَّدة بالمغادرة بعدما جاءتها دعوة خلاص أخرى لبريئةٍ من بريئات تلك القريةِ ، وهي تؤمن أن البقاء لله وأن الجنة تحت أقدام الأمهات...
هناك هناك هناك...
هناك في جنة أرواحٌ أمهات .. ثمَة في جنة الخلد حيث تهِيمُ مع صغارها وصغيراتها يملؤونهُنَّ رحمة ولطفا من ربٍّ يدعو لرحمة من في الأرض ليغْمُرَنا برحماته...

وإلى اللقاء بكم في مذكرة أخرى من مذكرات جنوبية
(رؤية همس الجنوبي لمعاناة جنوبيات)
بعد عصر السبت 24 أبريل 2010

...