مذكرات جنوبية ( رؤية همس الجنوبي لمعاناة جنوبيات) المذكرة السادسة : 2 – بقية من ذكرى " تََََعْليتْ "
3 مشترك
كاتب الموضوع
رسالة
همس الجنوبي نجم تمزموطي
عدد المساهمات : 371 تاريخ التسجيل : 18/10/2009 العمر : 45 الموقع : www.badda.c.la
موضوع: مذكرات جنوبية ( رؤية همس الجنوبي لمعاناة جنوبيات) المذكرة السادسة : 2 – بقية من ذكرى " تََََعْليتْ " الأربعاء ديسمبر 12, 2012 6:56 am
بسم الله الرحمان الرحيم مذكرات جنوبية ( رؤية همس الجنوبي لمعاناة جنوبيات) المذكرة السادسة: 2 – بقية من ذكرى " تََََعْليتْ "
تبا لك أيتها الذاكرة ! تبا لخزان الأصوات والصور والحركات والإيماءات والنظرات والهمسات والأنفاس والعثرات فيك ، تبا لتلك الشرائح الاسترجاعية التي لاتتعرض لهجمات فيروسات تمحوها أو تسرقها منك ، أو حتى تُغيِّرَ من سيرتها ووقائعها الماضَوية المحتومة فتجعلَنا ننسى حوادث جنوبيات أدّين ثمن القهر والجور والزجر والرفض والصمت ...
تذكرينني كلما رفعت رأسي للسماء بنجمتنا " تتريت " ، رسخ فيك ونحن صغار أن النجمة تسقط ومعها ترفع روح من أرواحنا إلى السماء ، كنت يومها مستلقيا على ظهري وإذا بنجمة تسقط من السماء اتجاهنا ، اعتقدت يقينا أنها لم تبرح أرضنا وأنها ستتبادل مكانة العلو بالدنو مع روح ستصعد بعدها للسماء ، نمت بعدها نومة إلى أن أيقظتني أصوات من نساء ورجال قريتنا قبل أذان الصبح بقليل ؛ يُعدُُّون للحراك نحو مضاجع " تامُّورغي – الــــجراد " التي يتعقّبها شباب القرية قبل مغرب شمس كل يوم حتى يتعرّفوا اتجاهها ، ليُغيروا عليها بُكْرةًَ فيأخُذونها في أكياس بلاستيكية كبيرة وصغيرة عن بَكْرة أبيها ، مستغلين عجزها عن الحركة بفعل البرد أو عن الرؤية بفعل الظلام... ، لتجد نفسها في القدور الملأى بالماء الساخن الذي يُخلّصُها من جمود الحركة ليُسلمها لجُمود الجَسَد ، بعد أن أعياها الركض طيرانا من بستان إلى آخر، ومن سدّادة قدرٍ إلى أخرى في أصوات ضربٍ فسكونٍ تأبى الذاكرةُ على نسيان طرطَقاتِها واللسانُ على مذاقها الألذ مع الملح حين تُقدَّمُ طعاما شهيًًّا في أطباق من صناعة أيدٍ جنوبيةٍ خالصةٍ...
أسمع أصوات رجالٍِ ونساءٍ يستعجلون " تعليتَ " الهبوطَ لبدء الغارة قبل حلول الضوء ، علها كانت تودع فراشَها وآنيةَ وضوئِْْها وأمَّها التي تلح عليها في مشاركة نساء الحي صيدَ هذا الموسم من الجرادِ ، نزَلَََتْ بعد مدّة أطالََها الوداع ، فبدأتُ أسمع وقعَ الأرْجل على الأرض تُغادر فيَخفُّ الصوتُ عن المكان لحظةً بلحظةٍ حتى عمَّ الصمت أرجاءَ القريةِ إلا من أرْجلِ مؤمني القرية المواظبين على أداء صلاة الصبح في المسجد مع جماعة القرية من مسنين وقليل من الرجال ... كان مضجع الجراد الليلة خلف النهر العامر ماء ً ، وهو الأمر الذي تطلّب قطع الوادي معونة ً ، شدًّا بالأيدي جماعاتٍ صغيرةً حتى يأْمَنَ الجميعُ سلامتَه من الغرق أو الانجراف مع مياهه الهادرة الغادرة ...
قطع الجمْع النهر فطفق كل صيادٍ مغيرٍ وصيادةٍ مغيرةٍ من أبناء وبنات القرية في صيد الجراد ، يقلّبُون بين الأحجار والأشواك فيَكْمشُون على مجموعة جراد وقد التصق بعضه ببعض التماسا للدفء من برد جنوبنا القار ، تتساءل الأخت حينها عن أختها فتُُخبَّر أنها ماضيةٌ في صيدها وأن صيدَها وافر فتُجْهد الأخت نفسها صيداًَ حتى لايكون صيدُها أقلّ وفرةً من صيد أختها " تعليت " ، وتسأل تارة أخرى - وحنين الدم يلتهِبُ في أعماقها - فتقُول لها صاحباتها :
ـ ربما تجدينها مع جماعةٍ نسائيةٍ أخرى هنا أو هناك وجدْنَ مكان صيد وافر فعكفْن عليه ، لذلك لم يظهر أثرها وهن إلى الآن..
يمضي الضوء في الظهور وتزول عتمة الغبش والكل قد ملأ من أكياسه ما استطاع ، حتى إن بعض الرجال والنساء عادوا إلى ديارهم بعد أن ملِؤوا منها سرعةً والتحقوا بالبيوت أو الحقول ...
طلعلت شمس ذلك اليوم وبدأ المتبقون يتبينون وجوه الرجال والنساء الذين تأخروا في الصيد ومعهم أخت " تعليت " التي أيقنت أن أختها ارتكبت خطأ فادحا إذْ كانت ممن حالفه حظ الصيد باكرا فعادت إلى الدار دون أن تسأل عن أختها الصغيرة ، غالبها الشك وصاحت بصوت عال بعد أن خلا المكان من المغيرين وعلاه الصمت : " تـــــــــــــعـــــــــــــــــــلـــــــــــــيـــــــت !! ؟ "
استعجلها الرجال والنساء المخلّفون عن الركب الأول والثاني وطمْأنوها أنها رُبّما رحلت مع الركب الأول أو الثاني ، وركبها الأملُ في أن تقطع النهرَ والمسافةَ بينه وبين الدار لتجد أختََها فيها ، لكن أملها خاب عندما حلَّت بالدار لتصدمها تساؤلات أمها عن تعليت ، ولما لم تجيء معها ؟ وأين فارقتها ؟ وفي أي لحظة فقدت أخبارها ؟
انهارت الأخت بكاء ولم تستطع الأم أن تتبين من ابنتها أيَّ جواب سوى أنها أيقنت في نفسها أنها فقدت ابنتها الكبرى بعد أن فقدت زوجها قبل سنوات ، صرخت الأم المكلومة قاطعة الأمل ؛ تـــــــــــــعـــــــــــــــــــلـــــــــــــيـــــــت !! ؟ "
هبَّ سكان القرية للدار فبدأ كل واحد يسأل عن المغيرين والمغيرات على الجراد صبيحة هذا اليوم علَّ " تعليت " تكن متخلِّفة عند إحداهم من عائلتها أو إحداهن من عائلتها أو صاحباتها ، ولا يكون الجواب إلا ؛ - رأيتها بعد أن عبرنا النهرذهابا - رأيتها بعد أن عبرنا النهر إيابا - كانت معنا في الصيد وحظيت بصيد وافر بعدها تحولت إلى مكان آخر - رأيتها صباحا على رمال النهر وساعدتها في حمل كيس من أكياسها
ضاع مصير " تعليت " بين هذا التصريح وذاك ، وعاش سكان القرية صباح ذلك اليوم يبحثون عنها في البر والنهر ، صارت السلطة تعرف بقصة الاختفاء ، بدأت بطولات الشيب والشباب تظهر في تقنيات البحث وتفصيل الرأي ، يومَها لم يسمح لنا بمشاهدة التلفاز حزنا على الفقيدة ، صلينا الظهر ووصل خبرها إلى سكان القرية ...
ماتت تعليت غرقا !!
وجدوها عالقة بأغصان أشجار ضفاف النهر بالقرية المجاورة لمجرى النهر ، أخرس هذا الخبر كل لسان وأدمع كل عين ، لم نكن حينها نستوعب - نحن الصغارَ- معنى الموت ولا الغرق ، ولا لما يصح للبعض الغرق وللبعض الآخر لا ؟؟ تحكي الفرقة التي عثرت عليها أنها كانت ترفع يدها للسماء طلبا للنجدة من الغرق ، وأن روحها علت إلى السماء لتأخذ مكان النجمة التي سقطت ليلتها على أرضنا وهي ترفع يدها للسماء ملبية نداء السماء ، فالله أكبر ، ما هذا البلاء ؟!
المسكينة غرقت في النهر وجرفتها مياهه على غفلة من جماعتها التي كانت تقطع معها الوادي ، أذهان جماعات المغيرين والمغيرات لم تكن تفكر إلا في الصيد وحجمه وعدد " الحزيرات أو .... " ، تتنافس الأرجل في الماء قطعا للنهر قبل أن تتنافس جمعا للجراد فوق البر ، أي جراد ؟ وأي صيد ؟ وتعليت تلفظ أنفاسها الأخيرة في النهر قبل أن تبدأ الغارة ويُجمع الصيدُ مع آخر نجمة تتلألأ في السماء قبل بزوغ شمس ذلك اليوم ؟؟!
نقل الجثمان للمستشفى ومنه بعد أن صلينا العصر إلى رحاب القرية ، وجيء بالأم لتُلقي نظرتها الأخيرة على ابنتها العزيزة ، لحظتها كنت أجلس إلى أصحابي على جنبات " ليحْضَارْ " ، حين سمعنا نبأ وصول الجثمان إلى رحاب القرية على متن سيارة " بيكُوبْ " الوحيدة التي كان يمتلكها رجل من أهل القرية ، كان همنا الوحيد هو أن نرى كيف تكون حركة اليد وهي ممدودة إلى السماء ، تدافعت بين الجمع مندسًّا حتى حظيت بآخر نظرة لسيدتي " تعليت " .
تلك كانت آخر نظرة حفظَتْها ذاكرتي عنها ، ولئن راودتها عن ذكراها فلن أتذكر من سيرتها سوى أنها كانت الجارة التي أمُرُّ عليها في الدرب ذهابَ وجِيئَةَ الكتَّاب ، فلا أجدها إلا وهي تغزل الصوف أو تنسج النسج أو تكنس الأرض ، وأخيرا نظرةََ رفع يدها للسماء لتحل محل النجمة التي أفل نورها فصارت منذ الليلة الأولى التي حضرنا مراسم دفنها تقع موقعها ...
أنْظُر كل مرة إلى السماء وأستطيع أن أسمي لك فيها نجمة ؛ " تتريت ـ تعليت " ، فرحمة الله وبركاته عليك نجمتنا الجنوبية الرائعة أدبا وخلقا .
وإلى مذكرة أخرى من مذكرات جنوبية ( رؤية همس الجنوبي لمعاناة جنوبيات) مع تحيات همس الجنوبي الكردان في 09 دجنبر 2012
chaman نجم تمزموطي
عدد المساهمات : 177 تاريخ التسجيل : 08/11/2009 العمر : 41 الموقع : واحة تمزموط (دروب الواحة )
موضوع: الله أكبر ما هذا البلاء السبت ديسمبر 15, 2012 5:12 pm
الله أكبر ما هذا البلاء والله إنها لذكرى حزينة ومؤلمة، بأسلوب سردي واصف دقيق، جعلنا نعيش ونسترجع لحظات تعليت الأخيرة عن قرب... تعليت أو تتريت كما سميتها ضحية لقمة العيش المرة في جنوبنا المنسي نسأل الله تعالى أن ينير بها وبذكراها عتمة الجنوب
jawhar aljanob تمزموطي فعال
عدد المساهمات : 75 تاريخ التسجيل : 12/11/2009 العمر : 33
موضوع: رد: مذكرات جنوبية ( رؤية همس الجنوبي لمعاناة جنوبيات) المذكرة السادسة : 2 – بقية من ذكرى " تََََعْليتْ " الأحد ديسمبر 16, 2012 7:19 am
very interesting story. we are hopefully waiting for the coming ones....
مذكرات جنوبية ( رؤية همس الجنوبي لمعاناة جنوبيات) المذكرة السادسة : 2 – بقية من ذكرى " تََََعْليتْ "