موضوع الحب الإلهي في الكتابات المشرقية و الأندلسية:
كاتب الموضوع
رسالة
البدراللطيف المشرف العام على المنتدى الثقافي
عدد المساهمات : 94 تاريخ التسجيل : 27/10/2009
موضوع: موضوع الحب الإلهي في الكتابات المشرقية و الأندلسية: الأحد نوفمبر 15, 2009 11:55 am
[jusتمهيد: إن بين الكتابة و التجربة الصوفييتن علاقة غير عادية ولا بسيطة،فالكتابة هنا تكاد تكون من الأسرار التي يكاد الصوفي ينفرد بها لنفسه،فهو يتجاوز المقومات والمفاهيم المتعارف عليها، و بذلك تأخد الكلمات شحنات جديدة، وترشح المصطلحات بمعانـيها المتفجرة ، إن الكتابة هنا هي جزء من الرحلة " نحو منابع الصفاء و الـنقاء، وتمثل مقاما للسالكين الذين رقت أرواحهم فرقت معانـيهم، ورقت معها أدواتهم التعـبيرية ؛"ان التزعزع الحاصل بين اللفظ و المعنى مرده إلى الانفصال الواقع بين جسد الصوفي و روحه. في القرآن الكريم آيات تصف الله تعالى بصفات الجلال، وتصور ما أعده من أصناف العذاب في الآخرة، بأسلوب قوي وشديد، وفيه آيات أخرى يصف الله فيها نفسه بصفات الجمال، و محبة عباده ورحمتهم..وكان لهاتين الطائفتين من الآيات أثرها في مراحل التصوف الإسلامي، حيث استجابت الطائفة الأولى لصفات الجلالة وكان الخوف هو الباعث على طاعتها، لكن قبيل القرن الثالث أصبحت نزعة الصوفية تقوم على الحب، فغدت صفات الألوهية هي الجمال المطلق والحب المطلق... ومسألة الحب الإلهي تعرضت لوجهات نظر مختلفة، فقد أنكرت طائفة أن يحب الله و يحب على الحقيقة، فلا يعدو ذلك- في نظرها - أن يكون مجازا، فحب العبد لله: طاعته و دوام خدمته، وحب الله لعبد كلاءته ورحمته، ومنهم من قال بضرورة الإيمان بالمحبة لأن الله وصف نفسه بها، دون النظر في ماهيتها وكينونتها... ثم جاء الصوفية ليؤكدوا أن الحب الإلهي حقيقة معروفة عرفوها في تجاربهم ، على أن الذي يهمنا في هذا المبحث ليس التأريخ لهذا الصراع و لمراحل تشكيل صورة الحب الإلهي، بل يهمنا أكثرأن ننفذ إلى موضوع هذا الحب، وخصائصه في المشرق والأندلس، مركزين على المشرقي باعتباره رافدا للتصوف الأندلسي، ومختصرين في الأندلسي أملا في استكمال صورته في الشق الثاني من هذا البحث المخصص لكتاب فريد و موسوعي في التصوف الأندلسي هو" روضة التعريف بالحب الشريف" لصاحبه لسان الدين ابن الخطيب. وعليه فسنعمل على الوقوف عند أبرز من مثل التصوف المشرقي من الأعلام الأكثر بروزا وشهرة في الآثار و الكتابات القديمة والحديثة كرابعة العدوية و الجنيد وذي النون والحلاج وابن الفارض...على سبيل التمثيل لا الحصر. 1-رابعة العدوية:* لقد كانت رابعة العدوية الأولى التي وظفت مفهوم المحبة توظيفا صوفيا، فبعد أن كان الزهاد إلى حدود منتصف القرن الثاني الهجري، يعبدون الله خوفا من عذابه وتوقا إلى الجنة، استعملت دون تردد عبارة الحب في العشق الإلهي ، ولها الفضل في إشاعة لفظ الحب عند من جاؤوا بعدها من الصوفية، وهي تعبر عن ذلك بعد تجربة ومعاناة مباشرة في أبياتها المشهورة التي سنتوقف عند دلالاتها كي نتعرف على موضوع الحب الإلهي عندما تقول: أحــــبك حبين؛حب الهوى * و حبـــا لأنـك أهــل لـذاك فأما الذي هو حب الـــهوى * فشغلي بذكــرك عـمن سـواك وأما الـذي أنت أهـــل لـه * فكـشفك لي الحـجب حتـى أراك فلا الحــمد في ذا و لا ذاك لي* ولكن لك الحـــمد في ذا و ذاكا في تفسير أبي طالب المكي: أن حب الهوى هو الصادر عن طريق النعم والإحسان، و الهبات المادية لا القدسية ، وهو حب مع ذلك ثابت؛ لأن صاحبه ينظر إلى المعنى الكامن وراء النعم. أما الحب الذي هو أهل له فهو في تفسير صاحب القوت، هو حب الإجلال والتعظيم لوجهه العظيم، وباعثه هو المحبوب نفسه لذاته وبذاته، وهذا الحب لا يفرض واجبات على المحبوب، بل كل الواجبات تقع على المحب، وهي غير متناهية لأن وجود المحبوب غير متناه كذلك . ورابعة، تفضل الله فأراها وجهه عنده آخرا، كما أراه لها أولا، أي في الدنيا والآخرة، ف ( ذا ) يشير إلى المعاينة في الدنيا، و( ذاك ) إلى المعاينة في الآخرة، وهي لا ترى في ذلك كله فضلا بل الفضل كله لله، وله الحمد على كليهما، غير أن مايآخذ عليه صاحب القوت في تفسيره، عدم التدقيق خصوصا أنه بالغ في فكرة العيان بالنسبة لحب الهوى، فرابعة تقول إن حب الهوى هو شغلها بذكر الله عمن سواه، و حقيقة الذكر، نسيان كل شيء، وذكر شيء واحد هو الله ( كما يقول الكلاباذي )، فهو إذن - أي الذكر- على مرحلتين: نسيان ما سوى الله، والتخلص من هذا النسيان لكن ذكر رابعة هنا " لا يزال يجول في ليل الحواس، لأنه تجريد مستمر للمحسوس، و بالتالي ذكر للمحسوس، وفي الذكر بقية من التعلق وقول رابعة هنا يفيد أنها لم تظفر بمعاينة وجه الله، بل تصف ما عسى أن يفضي إليه هذا الحب لكن الانتقال إلى دور الإيجاب مليء بالمتاعب والمجاهدات، فقد كانت تنوح باستمرار ورجاؤها هو رؤية الله في الآخرة، وهي مشتاقة إلى الجنة، وإلى هذا الحد لا زال حبها ملتبسا بمحسوس: لأنها تطمع في الجنة، وهذا الطمع سوف يزول بل ستعتبره إثما تقترفه. وهنا تطور هائل في حياتها، وهي مرحلة حاسمة، إنها تبوح لسفيان الثوري بأنها ما عبدت الله خوفا من نار ولا حبا لجنته، بل عبدته حبا وشوقا، وبذلك تدخل في ملكوت الحب الذي هو أهل له، فهي لم تعد تحب الله إلا لله ، ثم وصلت حياة رابعة الذروة الروحية؛ فأقفلت أبواب حواسها، وكأنها ماتت من الدنيا، فقد ذكر أنها دخلت قطعة قصب في عينها في الصلاة ولم تشعر بها حتى انصرفت عن الصلاة، وهذه القصة تشهد على فنائها عن الوجود الخارجي بالفناء في الوجود الباطن. وبهذا السبق، أصبحت رابعة العدوية رمزا من رموز الحب الإلهي، وقد أثرت في المتصوفة الذين أتوا بعدها، و" تركت في الإسلام أريجا من الولاية لن يتبخر" على حد تعبير ماسينيون. 2 - أبو القاسم الجنيد* ترتبط نظرية الجنيد في الحب الإلهي، بنظرية أخرى له أهم وأشمل، هي نظرية التوحيد والفناء وحقيقة الروح الإنسانية، ومفادها باختصار: أن أرواح الناس آمنت منذ الأزل بالله قبل أن تنزلها إلى عالمنا، فتوحيدها صادِر قبل أن تلتبس بأعراض البدن وآفاته . ولما نزلت إلى عالمنا، نسي بعضها أصله وانشغل بالدنيا، وبعضها الآخر بقي وفيا لتوحيده وميثاقه مع الله، ولأصله والحال التي كان عليها قبل وجود العالم، فإذا تمكنت أرواح هذه الطائفة مما أرادت، وحدت الله التوحيد الخالص " وفنيت عن وجودها الزمني وبقيت بالله وحده وفي هذا الفناء في الله يتحقق الحب له؛ فبقاء الذات حية في الله لا تشهد سواه في مقابل فنائها، هو عين المحبة، إذ الفناء تَحَقق أزلا في الحق حيث لم يكن سواه، فذلك ما ينشده الصوفي الآن . ويرى الجنيد أن الله يريد أن يقهر الوجود الإنساني بفيض الوجود الإلهي عليه، ويتحقق ذلك باستيلاء الوجود الإلهي على الوجود الإنساني و هومايتحقق في حال الفناء في الله والحب لله، قال قال تعالى: ﴿ لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ...﴾ هذا هو معنى الإستيلاء الوجودي على وجود العبد المحب، ويقصد به الجنيد أن الله يؤيده ويوفقه ويهديه... فتكون الحركة للحق على الحقيقة، وللعبد في الظاهر "وفي هذه الحال يصبح الوجود الذاتي المتعين وجودا أتم وأكمل عن طريق البقاء بالله، وفي الله". فنظرية الجنيد في الفناء والحقيقة هي عينها نظريته في الحب الإلهي، فالفناء الصوفي والحب الإلهي لهما نفس الحقيقة، فالصوفي الفاني في الله، هو المستغرق في حبه، وفي تام الحب وكماله يوفى بالميثاق الذي تم قطعه في عالم الذر، ويحظى بالاتصال بالله وبمشاهدته. 3 - ذو النـــون:* يمتاز ذو النون في أسلوبه في المحبة بعاطفة متأججة، وهو ما جعل أقواله فيها أبلغ أثرا، وأكثر شهرة في أوصاف المتصوفة، وقد كان لا يرى في الوجود شيئا إلا رأى فيه الله، ولذلك أقواله يمكن أن توصف بوحدة الشهود، لقد كانت مظاهر الطبيعة بالنسبة إليه آيات دالة على الله وعظمته ومخالفته للحوادث، فكل ما يراه يرى الله عنده، فهو يجرب وحدة الشهود حتى في حالة الصحو، ومع ذلك يحس أن المظاهر الجمالية والجليلة تحجبه عن محبوبه فيدعوه أن يرفع الحواجز، ليفتح له باب الشهود كي ينغمس قلبه في ضياء المعرفة، ويتذوق طعمها فهو يقرن المحبة الإلهية بالمعرفة الذوقية . فالمحبة الإلهية جماع الأخلاق- في تصور ذي النون- سواء منها ما اتصل بالله أو ما اتصل بالخلق، فمن مظاهرها حب ما يحب الله، ويبغض ما يبغضه، وترك كل ما يشغلُ عنه، ومنها فعل الخير والعطف على المؤمنين والغلط على الكفار، ومنها حب رسول الله و اقتفاء أثره. وقد وصف أبو الفيض أصحاب المحبة الالهية بأنهم لا " تستريح لهم قدم تحت ستور الظلمات ، فيالها نفوس طاشت بهممها، و المسارعة الى محبتها لما أملت من اتصال النظر الى ربها،فنظرت فآنست،ووصلت فأوصلت،وعرفت ما أراد بها فركبت النجب و فتقت الحجب حتى كشفت عن همها الكرب فنظرت بهم محبتها الى وجه الله.." وتكلم ذو النون عن أخص لوازم المحبة وهو الأنس، فاعتبر من المحبة الاستئناس بالله والاستوحاش من كل ما سواه. و هكذا تكاملت شواهد المحبة فيه، ووصلت ذروتها "وأخذ يردد أهازيج صاغها من فؤاده لمحبوبه الأسمى فيخاطبه قائلا:أموت وما ماتت إليك صبابتي***ولا قضيت من صدق حبك أوتاري 4 - الحـــلاج* هكذا شاعت مسألة الحب الإلهي في أقوال المتصوفة، فأصبحت جوهر اللغة التي يتكلمونها، إلى الحد الذي تسببت فيه محنة كثير منهم، لما ذابوا وجدا في الذات الإلهية، فاستوت أناهم مع الله " ولما صرحوا بذلك لقوا ما لقوا وسفكت دماؤهم، ومن هؤلاء الحلاج (-309هـ/922م) الذي فلسف العبارة " خلق الله آدم على صورته" على أن الإنسان صورة الله، بإرجاع الضمير في "على صورته" إلى الله لا إلى الإنسان، وهذه الصورة مؤلفة من طبيعتين، الناسوت واللاهوت. على أن هذا التفسير تم على ضوء نظريته الحلولية، التي لم يكن للمسلمين وقتئذ عهد بها، وهو ما أثار حنقهم عليه، حتى المتصوفة منهم. ويلخص نظريته في الحب الإلهي القائمة على الحلول، بقوله: أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حلـلنا بدنا فـإذا أبصـرتني أبصـرته وإذا أبصرته أبصرتـنا لقد خلق الله آدم- في منظور الحلاج- على صورة مرآة تعكس جمال الله وتنشر محبته على الكون، وبذلك يكون الحب هو العلة الأولى للخلق؛ فالحق- لايزال الكلام للحلاج- تجلى لنفسه في الأزل قبل الخلق، فأحب نفسه وأثنى عليها، فكان هذا تجليا لنفسه في ذاته في صورة المحبة المنزهة... وكانت هذه المحبة علة الوجود... وأخرج من العدم صورة من نفسه لها كل صفاته وأسمائه وهي آدم، ومحبته تعالى صلة اضطرارية لا خيارية، لأن بين اللاهوت والناسوت ميلا اضطراريا، ومعنى هذا أن الحب ليس مكتسبا ولا عارضا بل هو جبلة. وقد عبر الحلاج عن الوجد والفناء بقوله: عجبت منك ومنـــي يامنية المـتمني أدنـيتني مـنك حـتى ظننت أنك أنـي وغبت في الوجد حـتى أفنيتني بك عني فطفق يردد هذا الحب، وظل فناؤه تشعله نار المحبة التي قويت حتى أصبح لا يفهم أن بينه وبين محبوبه فرقا، هذه المحبة التي فاضت بها عاطفته- حيث كان يشعر بالفناء في ذات الله المنفردة بالبقاء- سيفضى به إلى الحلول ثم حتفه حيث نفذ فيه حكم الإعدام، بعدما قال فيه الجنيد" لقد أحدثت في الإسلام ثغرة لا يسدها إلا رأسك" ولم يثن ذلك كله الحلاج على دأبه، بل لحظة وقعته أخذ يتبخثر ويضحك ويقول: نديمي غير منـسوب إلى شـيء من الحـيف دعـاني ثم حـياني كفعل الضـيف بالضيف فلـما دارت الكـأس دعا بالنـطع والسـيف كذا من يشرب الراح مع التنين في الصـيف
وهكذا أعدم في الرابع من ذي القعدة سنة 309هـ، وذهب فداء لحبه للذات الإلهية، وعرف بشهيد العشق الإلهي. 5-ابن الفــارض:* يعد ابن الفارض من أقطاب العشق الإلهي، وأعظم شاعر صوفي عربي على الإطلاق، وكان لاجتماع التصوف والشعر فيه أثر كبير في شخصيته؛ حيث فاض عنهما شعر صوفي خالد، تتجلى فيه تجاربه الروحية العميقة، وما يعتريه من أحوال ومواجيد وأذواق . هذا وقد كان ابن الفارض يملك نفسا خلقت بطبعها عاشقة للجمال؛ فتجذبه إلى كل ماهو جميل بفطرتها، فكل ما في الكون سواء، من إنسان ، وحيوان،... بل كل ذلك يحيل على الذات العلية يقول: تراه إن غاب عني في كل جارحة في كل معنى لطيف رائق بهيج لكن ما هو موضوع الحب الإلهي عند شاعرنا الصوفي؟ إن الحب عند هذا الصوفي يتخذ صورا متعددة، لكنه انتهى إلى الانشغال بالجمال المطلق، فهو تارة يتغنى بجمال الأفعال الإلهية، وأحيانا يصف صور هذا الجمال في عالم الغيب، وأحيانا أخرى يطلعنا عن جمال الصفات، ثم إنه أحيانا أخرى يحدثنا عن مشاهدة جمال الذات، لكنه قبل أن يصل إلى حب الجمال المطلق تدرج عبر هذه الأطوار كلها . ولكي نقترب أكثر من موضوع الحب الإلهي لابن الفارض، سنقتصر على قصيدتيه "الثانية الكبرى" و"الخمرية" باعتبارهما تمثلان شعرا صوفيا خالصا، ولأنهما تصوران حب شاعرنا الإلهي. لقد عمد الشاعر في كلا القصيدتين إلى الرمز والتلويح، ففي تائيته رمز للحب الإلهي " بالحميا" وإلى وجه المحبوبة "بالكأس"، وفي الخمرية رمز للحب بالمدامة قال: شربنا على ذكر الحبيب محامة ***سكرنا بها قـبل أن يخـلق الكـرم وقال: سقتني حميا الحب راحة مقلتي*** وكأس محيا من عين الحسن جلت فكأسه هنا هي وجه محبوبته الذي فاق كل جمال، مشيرا بذلك إلى وجه الله، وقدحه هي عينه التي ينظر بها إلى هذا الوجه، يملأها من جماله مثلما تملأ الكأس من الخمر، فيترتب عن هذا أن الحميا في الثائية هي الحب الإلهي أما المدامة فهي " رمز على المحبة الإلهية كذلك بوصفها أزلية قديمة منزهة عن العلل، مجردة عن حدود الزمان والمكان، وهذه المحبة، هي التي بواسطتها ظهرت الأشياء،وتجلت الحقائق، وأشرقت الأكوان... وهي التي شربتها الأرواح المجردة فانتشت وأخذها السكر واستخفها الطرب قبل أن يخلق العالم . ولكي نلتمس أكثر موضوع الحب الإلهي- الذي لا يخرج عن الذات الإلهية وجمالها المطلق، وآثار هذا الحسن الصادرة عنه- لا محيد لنا من اكتشاف الأطوار التي مر منها ابن الفارض، وقد ألمعنا إلى أن التائية الكبرى هي مرآة هذه الأحوال، التي تعاقبت على نفسه وهي ترجمة لحياته الروحية، وسلوكه في طريق الحب الإلهي حتى وصل إلى أرقاها ، وهي رحلة شبيهة بالرحلة إلى ديار المحبوب: فكما تساق الظغائن وتحذى الإبل، وتطوي العيس المفاوز" تطوي نفوس المحبين في السفر الروحي الشواغل القاطعة والعلائق المانعة " التي تحول بينهم وبين حب الله... إن حب ابن الفارض في طوره الأول يرنو إلى إشباع رغباته ولذاته من المحبوب، وفكرة الثواب حاضرة فيه، لكن في الطور الثاني ستمحي فكرة الثواب والرغبة في إشباع الرغبات من المحبوبة، و حبه هنا من النوع الثاني الذي رأيناه عن رابعة " الذي أنت أهل له" يقول: تقربت بالنفس احتسابا لها ولم*** أكن راجيا عنها ثوابا فأدنت ويقول: فلاح فلاحي في إطراحي*** ثوابي لا شيء سواها متيبتي ها قد صار محبا لنفسه ليس بمعنى حب الطور الأول، بل يحبها لأنها استغرقت في المحبوبة، يقول: كنت بها صبا فلما تركت مـا * أريـد أرادتـنـي لـها وأحـبت فصرت محبا بل محبا لنـفسه * و ليس كقول مر نفسي حبـيبتي وبتجرد النفس من أغراضها، وفنائها عن مشاهدة ما سوى المحبوبة يصل المحب إلى " الموت الموصل إلى الحياة التي يشعر فيها المحب بسقوط التمايز بينه وبين محبوبته" ، وهذه هي مقدمة الطور الثالث حيث الوصول إلى الحال الموحدة " التي لا تشهد فيها غير شيء واحد هو الذات الأحدية، كما أنها تشهد أنها أصبحت وهذه الذات شيئا واحدا " ، فوجود الذات هو عين وجود المحبوب، وهو ليس فناء عن " وجود السوي" بل هو فقط ثمرة شعور لا ثمرة عقل، ثم إنه فوق ذلك اتحاد بين الإنسان والحقيقة المحمدية، والإتحاد في هذه الصورة الثانية لا يختلف عن صورته في الأولى، " إلا أن الذات هي الوجود المطلق الذي لا يتعين فيه، والحقيقة المحمدية هي الذات مع التعين الأول و هو الاسم الأعظم" ففي هذا الطور،المحب صاح و ليس سكران كما في الطورين الأولين إنه يثبت لنفسه صحو الجمع بعد أن أثبت سكر الجمع• يقول: و كل الورى أبناء آدم غير أني * جزت صحو الجمع من بين إخوتي فسمعي كليـمي، و قلبي منبـأ * بأحـمد رؤيا مـقلة أحـمديـة فقد أثبت السكر والغيبة لموسى مكنيا عن حاله في الطور الأول، و أثبت الصحو لمحمد الذي لم يخر صاعقا بل شهد الحق يقظة، و هذا حال ابن الفارض في الطور الثالث . هذا عن حب الله الإنسان، أما عن حب الله الذي صدر عنه الكون، فتمثله الخمرية و بعض أبيات التائية، و يرجح أنه الحب الذي أشار إليه الحديث المقدسي " كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق فيه عرفوني" هذا الحب هو الذي استمدت منه المخلوقات وجودها، وهو المنبع الفياض بالخلق، وهو ما يدل عليه تشبيه المدامة بالمحبة الإلهية في الخمرية، يقول: لها البدر كأس وهي شمس يديرها*** هلال وكم يبدو إذا مزجت نجم فالشمس تصدر عنها النجوم التي كنى عنها بالمخلوقات. ويمتاز هذا الحب بروحانيته الخالصة، فالمدامة تمتاز بالصفاء المختلف عن صفاء الماء، واللطف المختلف عن لطف الهواء، والنورانية المختلفة عن النار، والروحانية المختلفة عن الجسمانية يقول: صفاء لا ماء ولطف ولا هوا*** ونور لا نار وروح لا جسم وهذا الحب قديم منذ الأزل وباق لا يزول أبدا، ولا تعتوره عوامل الفساد: تقدم كل الكائنات حديثها*** قديما ولا شكل هناك ولا رسـم وهذه المحبة منزهة، ومتحررة من قيود الزمان والمكان: ولا قبلها قبل ولا بعدها بعد بعدها*** وقبلية الأبعاد فهي بها حتـم وتتفرد هذه المحبة كذلك بأنها قامت بذاتها، وتقوم الأشياء بها. وقامت بها الأشياء ثم لحكمة*** بها احتجبت عن كل من لا له فهم أما طبيعة حب ابن الفارض فهو حال" قامت بنفسها، تلقتها روحه قبل أن تهبط إلى بدنه، ولم يكتسبها عن أي طريق من طرق الكسب، وهذا يظهر على أن هذا الحب يمتاز بكمالات هي أقرب ما تكون إلى كمالات الذات" . tify]
موضوع الحب الإلهي في الكتابات المشرقية و الأندلسية: