المبحث الثاني: موضوع الحب الالهي في الكتابات الأندلسية:
كاتب الموضوع
رسالة
البدراللطيف المشرف العام على المنتدى الثقافي
عدد المساهمات : 94 تاريخ التسجيل : 27/10/2009
موضوع: المبحث الثاني: موضوع الحب الالهي في الكتابات الأندلسية: الأحد نوفمبر 15, 2009 3:54 pm
[/jusتمهيد: لقد كانت المرحلة الأولى في التصوف الأندلسي مبنية على الزهد و الرياضة و المجاهدة، واستمرت إلى حدود القرن الرابع، و توجت بمدرسة ابن مسرة (-319هـ) التي كانت تمزج بين الزهد و الآراء و الأفكار الفلسفية الاعتزالية و الاسماعيلية ، و قد استمر وجود الخط المعتدل للتصوف إلى جانب هذه المدرسة، وجمع أصحابه بين التأمل العلمي و العبادة العملية، خاصة في الجهاد و تعزيز الوحدة الوطنية، لكن رغم انتشار التصوف السني فإن الاتجاه الذي سيكون له الشأن الكبير هو الاتجاه الباطني ، و في المرحلة الوسطى التي امتدت إلى حوالي 560 هـ، ستنقتطع آراء ابن مسرة الصوفية و الفلسفية في حدود القرن الخامس إذ لا نجد أسماء لمتصوفة تربطه بالقرن الرابع ثم القرن السادس الهجري، و لعل مرد ذلك إلى جهود الفقهاء و السلطة حيث أحرقت كتب اليونان، و مكتبة ابن مسرة، لكن لم ينته القرن الخامس حتى عادت الحيوية إلى أفكار التصوف ، بفضل ما تميز به عبد الرحمان الثالث من تسامح و حب للعلم، و هنا سيعمل ابن مسرة على تبليغ رسالته في جو مغلق و سيمارس التمويه على الناس و الفقهاء، لكن معظم آرائه الفلسفية و الصوفية التي وصلتنا متضاربة و ضاع منها الكثير، غير أن الراجح أن مذهبه العقدي يتألف من الرافد الصوفي، و الاعتزالي و الفلسفي الغنوصي ، و في هذا القرن ستنتعش حركة التصوف بمعظم المدن و كانت "ألميرية" في مقدمتها، حيث تركزت فيها أصول التصوف الفلسفي، و سينطبع التصوف فيها بصفات خاصة أهمها و حدة الوجود مع رواد كبار، كابن برجان و ابن العريف، و ابن قيسي الذي كان من أبرز تلاميذ المدرسة المسرية الباطنية، و هو الذي ربط بين أفكارها و الأجيال اللاحقة على رأسهم ابن عربي ؛ " رائد المدرسة و عالمها الأوحد و قطبها الثاني ، و سنركز نحن هنا على ما له علاقة بنظرة الشيخ و تصوره للحب الإلهي التصاقا بالموضوع خوفا من الاسترسال في محطات تاريخ التصوف الاندلسي المتشعبة .. 1 - ابن عــــــربي:* لقد حاولنا أن نركز على تجربة ابن عربي في التصوف الأندلسي لاعتبارات متعددة منها أن هذا العلم هو أكبر منظر لتجربة الحب في الصوفية، وروافده العلمية كثيرة ومتنوعة، ولذلك فإن " مفهومه للحب يعد تجميعا وتركيبا لكل ما وصل إليه الفكر العربي الإسلامي إلى حدود القرن الذي عاش فيه، كما يعد مفهومه للحب أنموذجا للشخصية الثقافية الأندلسية، التي جمعت كل المشارب وضايفت كل التيارات، مشكلة بذلك هوية ذات سمات مميزة، ثم إن هذا القرن الذي وجد فيه ابن عربي شهد قمة المد الصوفي بالأندلس، وظهر فيه كبار المتصوفة الذين تجاوز إشعاعهم العالم الإسلامي، و تكمن أهمية ابن عربي في كونه همزة وصل بين التراث الصوفي والفلسفي السابق عليه، وكل المفكرين الذين جاؤوا بعده " الذين لم يكد ينجح واحد منهم في تجاوز تأثير فلسفته بالسلب أو الإيجاب" . لقد بشر ابن عربي في فلسفته للحب بكونية الحب، فهو ينظر إلى الكون نظرة عامة شاملة، يعتبر فيها الإنسان كونا أصغر، والعالم كونا أكبر، فالإنسان يمثل التجلي الإلهي، وهو مظهر من مظاهر الوحدة الوجودية، ولهذا كان الحب في فلسفة ابن عربي دينا، يقول: لقد صار قلبي قابلا كل صـورة **** فمرعى لغزلان ودير لرهبان وبيت لأوثان وكعـبة طــائف **** وألواح توراة ومصحف قرآن أدين بدين الحب أنى توجـهت **** ركائبه فالحب ديني وإيمـاني فكل ما في الكون هو مجلى من مجالي الحق وصورة من صور تجليه، ولهذا فالحب الإلهي والإنساني شيء واحد، كما أن المخلوقات هي وذات الحق شيء واحد ، والحق هو الظاهر في كل محبوب لعين كل محب، وما في الوجود إلا محب، فالعالم كله محب ومحبوب، وما أحد أحب شيئا سوى خالقه..." من خلف حجاب الصور وسبب ذلك الغيرة الإلهية أن يحب سواه" ، والحب " سببه الجمال وهو له الجمال؛ لأن الجمال محبوب لذاته، والله جميل يحب الجمال، فيحب نفسه، وسببه الآخر هو الاحسان، وما تم إحسان إلا من بالله ، فإن أحببت للإحسان فما أحْبَبْت إلا الله فإنه هو المحسن، ما متعلق المحبة إلا بالله." ولكي نتقرب أكثر من مفهوم الحب الإلهي عند ابن عربي، نتوقف قليلا عند هذه الفقرة التي ساقها الحاتمي موجزة قبل أن يعود إليها للتفصيل والشرح يقول: " إعلم أن الحب منه إلهي وروحاني وطبيعي... فالحب الإلهي هو حب الله لنا وحبنا الله أيضا... والحب الروحاني هو الذي يسعى به في مرضاة المحبوب لا يبقى له مع محبوبه غرض ولا إرادة بل هو بحكم مايراد به خاصة، والحب الطبيعي هو الذي يطلب به جميع نيل أغراضه سواء سر ذلك المحبوب أو لم يسره، وعلى هذا أكثر حب الناس اليوم." فالحب ظاهرة ذات مراتب وعتبات تتنوع باختلاف الأهداف والدوافع والخاصيات: أ. الحب الطبيعي: هو النوع السائد لدى العوام، يخضع للطبع والجبلة الطبيعية للإنسان، غايته الإتحاد الروحاني بالمحبوب، فتكون روح أحدها للآخر، عن طريق الإلتذاذ والشهوة، ونهايته من فعل النكاح، وابن عربي لا يحتقر هذا النوع من الحب ولا ينزل به إلى درجة الحب البوهيمي، فهذا مرتبط بالضرورة البيولوجية والالتذاذ فقط، أما الآخر فمرتبط بدوافع نفسية ووجدانية، وقد يسفر عن مضاعفات جسدية أو نفسية ( كالنحول والإصفرار...) ويسوق ابن عربي هذا الضرب من الحب، ليبرز خصيصة فيه ،هي أن المُحِب محب لنفسه لا للمحبوب؛ فالمحبوب مجرد وسيلة لمتعة الذات، وقد تتضخم صورة المحبوب في خيال المحب وذاكرته، وتصل درجة يملك فيها كل مشاعره وهنا تثبت الرغبة في محبوب واحد بصفة دائمة وهذه هي العلامة الأولى لتحول الحب الطبيعي إلى حب روحاني. الحب الروحاني:" هو الحب الجامع في المحب أن يحب محبوبه لمحبوبه ولنفسه، وفيه يعلم المحب" ما هو الحب وما معنى المحب وما حقيقة المحبوب" ، ويرجح أن ابن عربي يميز في هذا النوع من الحب بين صنفين: الأول: هوالأقرب إلى الحب بمفهومه الفلسفي، يعرف لدى الخواص من المسلمين بحب المعرفة والحقيقة والحكمة. والثاني: هو ما عرف " لدى كتب العشاق والمحبين بالعشق الروحي الثابث، الذي يجمع بين شخصين إثنين ( غالبا ما يكونان امرأة ورجل)، وهذا الحب الروحي أقل انتشارا وتواجدا بين الناس. إن الحب الروحاني للحكمة يولد في الإنسان " ميلا إلى غير أمر طبيعي كميله إلى إدراك المعاني والأرواح العلوية والكمال، ورؤية الحق والعلم به." والحب المعرفي هو حب خالص، بخلاف الحب الروحي الثاني فهو يحتوي الحب الطبيعي ، لكنه يصبغ عليه طابعا روحيا لم يكن له، فغايته هي تواصل أرواح المحبين واجتماعها، ومادامت الأرواح مودعة في الأجساد، فإن ذلك الاتصال الروحي بين الشخصين المتحابين يرتبط باتصالهما الجسدي ، وهنا يلتقي الحبان الطبيعي والروحاني، فغاية الثاني هي الاتحاد، بأن "تصير ذات المحبوب عين ذات المحب، وذات المحب عين ذات المحبوب"، وهذا الإتجاه – طبعا- لا يتم إلا بالاتصال الجسدي، إذ أن " النفس تود أن تنال بحسها اللمسي، نيلها بحسها البصري" ، وهذا غاية الحب الروحي في الصورة الطبيعية." وإذا كان الحب الروحي المعرفي يحب فيه المحبوب لذاته، فإن خصيصة الحب الطبيعي، هي حب المحبوب لأجل الذات ولأجل المحبوب. ولم يتعرض ابن عربي هنا لحب المتصوفة لأن حبهم أرقى من الحب الروحاني؛ فحبهم هو الحب الإلهي. الحب الإلهي: هو" أن يحبنا ولنفسه، أما حبه إيانا لنفسه فهو قوله تعالى:” أحببت أن أعرف فخلقت الخلق فتعرفت إليه فعرفوني” فما خلقنا إلا لنفسه حتى نعرفه... وأما حبه إيانا لنا ، فلما عرفنا به من الأعمال التي تؤدينا إلى سعادتنا ونجاتنا من الأمور التي لا توافق أغراضنا ولا تلائم طباعنا." إذن، فسبب ظهور الموجودات في العالم هو حب الله أن يعرف، وكان تجلي الله للعالم لهذه الغاية ، وبذلك فمبدأ هذا الحب هو أن الله أراد معرفة ذاته وصفاته في صور وأشكال خارج ذاته، لذلك فحبه للعالم هو حب لنفسه، وماالعالم إلا مرآة يرى فيها ذاته . ومن هنا يظهر الارتباط الوثيق بين مبحث المعرفة- باعتباره من أهم مجالات الفكر الصوفي والصوفي الفلسفي، خاصة- مع مجال الوجود في فكر ابن عربي. أما حبنا لله: فمتعلق بوجودنا الحادث؛ وهو صورة مركبة من الألوهية والعالم، لذلك فهو موزع بين حب الألوهية وحب لتجلياتها، ومن هنا يجمع بين الحب الإلهي والروحاني والطبيعي؛ لأن مراتب الكون الروحية والطبيعية هي مجالي للأسماء والمعاني الإلهية، فالحب الإلهي لدى الإنسان جامع لكل مظاهر الألوهية والكون والإنسان؛ إذ الحب الطبيعي والروحاني مرتبتان تحت الحب الإلهي الجامع لدى الإنسان - فيما هو صورة للألوهية يحب كل مظاهرها- وصورة العالم بحب كل مراتبه، والإنسان كذلك عنصر من الطبيعة يحب كل موضوعاتها. وبهذا ينتزع ابن عربي الحب من الجزئية إلى الكونية، ليرقيه إلى الكونية الخاصة بالجمال الإلهي، فالإنسان ما أحب غير خالقه، وإن احتجب عنه بالنساء والجاه والمال... فهناك ارتباط جدلي بين مذهب ابن عربي في وحدة الوجود والحب الألوهي ووحدة الفعل والأخلاق ، ثم إن الاختلاف بين أنواع الحب هو يمس فقط المظاهر أما المبدأ المحايث لتلك المظاهر فهو واحد ، وهو سر الجمال الإلهي، ويذهب الحاتمي بعيدا فيقول: بأن أية حركة في الكون هي حركة حبية، هذه الحركة وهذا الإحساس الجمالي يخفيان إحساسا بالاغتراب والإنفصال، عن الأصل الإلهي، فحركة الحب عند الموجودات ماهي في الأصل إلا رد فعل ضد الإحساس بالإغتراب الأصلي ومحاولة إلى الاتصال بذلك الأصل الإلهي. وقد راهن ابن عربي كثيرا في التعبير على الحب الإلهي على الغزل فقال : " وجعلت العبارة عن ذلك ( يقصد الحب الصوفي) بلسان الغزل والتشبيب؛ لتعشق النفوس بهذه العبارات، فتتوفر الدواعي على الإصغاء إليها، وهو لسان كل أديب ظريف، روحاني لطيف ، وقد كتب ديوانا بأكمله سماه " ترجمان الأشواق" تغزل فيه " بالنظام" ابنة الشيخ مكين الدين- وهو أحد الشيوخ الذين لقيهم بمكة- لكن غزله وإن وصفه بها مثل ما يفعل العذريون" فإنما يصف ذلك الرمز مكنيا به الحقيقة الكلية التي وراءه" حيث كتب شرحا موفيا على الديوان سماه" ذخائر الأخلاق في شرح ترجمان الأشواق" ، فالمرأة في الحب الصوفي " تكثيف للجمال الكوني وليست جسدا يخضع لمنطق الرغبة والمتعة الحسية" فالعذريون لم يصلوا مبلغ الصوفية رغم اعتبارهم المرأة غاية في حد ذاتها؛ فالتائية الكبرى هي ملحمة الجمال الكبرى في الشعر العربي برمته ولعل سرالمزية فيها أنها عرفت كيف توحد بين المرأة والحقيقة المطلقة ، وسنلتمس هذا بجلاء في تجربة الشـشتري. 2-الشـشــتري:* يتخد أبو الحسن من الجمال المطلق موضوع حـبه، و الحب و المعرفة الذوقية شـيء واحد، فالإدراك الباطني الذوقي لماهية المحبوب (الله الوجود الكامل) و الألوهية هي الجمال المطلق و الحب المطلق اللذان يغمران الـوجود، ولما كانت عـلة خلق الـعالم هي تجلي الله خارج ذاته لكي يعـرف؛ فإن محبة الخـلق دافعها هو تـحقيق الوحدة و التلاقي،لذلك ففناء الإنسان عن نفسه و تغيبه لذاته و لكل ما سوى الله هو شرط تحقيق المحبة ، لذلك ففناء الششتري هو من نوع الفناء عن وجود الـسوي؛حيث لا تعدد و لاتكتر، و شهود الله هو عين شهود العبد، لكن فناءه يتدرج من الفـناء عن الأوصاف البشــرية الذميمة و البقاء بالأوصاف الإلهية الحـسنة ثم الفـناء عن شـهود السوي (هـو فناء عما سوى الله،حتى يظن أنه امتزج به) وقد عبر عن هذا التدرج في الفـناء بهذه القصيدة الزجلية : تركــك لجسمك *** و كشـفك الخـــطى فافــنى و دع حبو *** و تبـقى حـــي يشـغلك عن ذاتك *** و تنـــــحـجب و يجـعل أوقاتــك *** كلـها شــغب *********** خـوذ الوجــود كلا **** يـذا الخــليع علوا مع ســفلا ***** ردوا جمـــــيع واجــعل من الجملا **** عرشــا رفيـع *********** رد الوجــود واحـــد**** أونــــت ذاك وليـس عليك زايــد**** مـا تــم ســواك.. "ففي فناء الصوفي التام عن نفسه، يشعر في حال وجده بأنه متحقق بالوحدة الوجودية التامة مع الله الحق، و هنا يعرف أن الله الواحد المطلق هو جوهر بذاته لاخارجا عن ذاته ، بل يصبح هو الجوهر المطلق و تتحقق وحدة المعرفة" يقول: أفـناني عني بـيا *** وهـذي بغـــيـتـي صـورتي مني فيا *** من وصــل حضرتـي وهـذه هي الرؤيا *** من عــن دعــوتـي نطلب كمالي فـيا *** ومـن وصل جانــبي و الشــشتري اتخذ من المرأة رمزا لهـذا الحب و تأثر كثيرا بالشـعراء العذريين. وما قلناه عن العذريين لا ينفي أن الصوفين وجدوا في تجربتهم الشعرية "لغة تربط الحب بالجمال و تنزع تجربة الحب من محيطها العادي لكي تسمو بها فوق المستوى البيولوجي والاجتماعي ، وهذا الكلام ينطبق كثيرا على أبي الحسن الذي تأثر كثيرا كذلك بابن عربي، وقد نبه إليه ابن تيمية واعتبره " من كبار الصوفية أصحاب وحدة الوجود الذين أثروا أبلغ الأثر في إمامة هذا المذهب ونشره" وقد نشر أفكاره اعتمادا على أشكال قريبة من الناس كالموشح والزجل، ومن قصائده التي تغنى فيها بجمال الذات الإلهية -باعتبار هذا هو موضوع حبه الإلهي- هذه القصيدة التي يتخذ فيها من رمز ليلى العامرية، في قصة المجنون، رمزا لحبه الإلهي وللوجود المطلق - حيث يصبح المحب هو المحبوب - يقول: غير ليلى لم يكن في الحي حي **** سل متى ما ارتبت عنها كل شي كل شيء سـردها فيه سـرى **** فلـذا يثـني عليـها كـل شـي هي كالشمس تلألأ نـــورها **** فمتى مارمـته قد عــاد فــي هي كالمرأة تبدي صـــورا **** قابلتها وبها مـا حــل شــيء هي مثل العين لا لـون لـها **** وبها الألوان تـبدي كـل شـيء... يقول أستاذنا الدكتور قاسم الحسيني معلقا على هذه القصيدة ومبينا أبعاد توظيف المرأة : الششتيري في الصورة يملك قدرةعلى النفاذ وعلى التجسيد الموحي ثم على التوحيد، لقد نفذ من خلال ليلى إلى الوجود المطلق، نفذ من الجزئي إلى الكلي، والتعبير عنه بصورة عينية محسوسة، ليلى صورة محددة كما نلحظ، استطاع الشاعر أن يحتضن فيها وغيرها حقيقة كلية، حقيقة الحب الصوفي، اتحاد جسدين في جسد واحد، إن ليلى في القصيدة لم تعد ذلك الشيء المتعارف عليه، العرض- المرأة في لحم ودم- وإنما صارت جوهرا على الدوام طلقت عالمها المادي وارتسمت في أحضان العالم الصوفي، فقد اكتسبت لباس المطلق، وتجاوزت نفسها يقول: سفكت في الهوى دمي ثم قالت **** يا طفيلي عشقتني؟ أنت أبـله إذا ترد وصلنا فموتك شـرط **** لا ينال الوصال من فيه فضـله طهر العين بالمـدامع سكـبا **** من شهود السوى يزل كل عله واخلع عنك ياخليع غرامــي **** لا يكن غـير وجهنا لك قبـلة وابذل الروح فهي فينا قليـل **** راضيا لاتقل دعـي من أصـله نقطة الباء٭ كن إذا شئت تسمو **** أو فدع ذكرى قربنا يا مـولـه وأردنا لـنا لـغير مـــواد **** والـزم الباب في حياء وخجلـة من أتى بابنا أنلـناه فضــلا **** تلك عادتنا لـمن شاء قلـة واجعل الفقر شفيعا لك تغنى **** حبذا الافتقار دينا ومـلـه هنا يلح الششتري على فكرة الذوبان في المحبوب والتماهي معه للوصول إلى الأفق الذي يحلم به كل صوفي في رحلته، ويتأكد هذا الذوبان بجعل الموت شرطا لحب فتاته ثم" تطهير جوهره- العين- بسكب المدامع، أي الذوبان للتخلص من علل التركيب بالرجوع إلى أصله وهو الماء ﴿ وجعلنا من الماء كل شيء حي ﴾ ، وبهذا يصير نقطة الباء أي نقطة الحق المبدع الأول، و هنا- كما تلزم النقطة الباء- عليه أن يلزم الباء مسلوب الإرادة حبيبا فقيرا، غير مستمع للجاهل، أي لشهوات بدنه ، إنها حقا دعوة لعبودية المحبوب، وتفويض الإرادة إليه، فالمرأة هنا إذن، رمز للأنوثة الخالقة، للرحم الكونية، إنها علة الوجود، ومكان الوجود، وعلى العاشق أن يغيب عن نفسه لكي يحضر فيها، وما لم تغب صفاته، فلن يثبت ذات حبيبته ولن يتوحد بها، وسيظل ضد نفسه ، وحين يموت تزول صفاته فيحيا. والمعرفة في اعتبار الششتري تقوم على الحب الإلهي، " ومثلما اتخذ الذات الأحادية أداة لمعرفته، اتخذ الجمال المطلق موضوعا لحبه فالحب والمعرفة موضعهما واحد، محب الله الجمال المطلق وعشق ذاته الأحادية، هو في نفس الآن معرفة بوحدانيته التي لا تقبل السوى" فجمال الله مثبت في كل الوجود. وبذلك يكون أبو الحسن ساهم في إغناء التراث المتعلق بالحب الإلهي، وكان لتوجهه الصوفي المعتمد على الشعر والزجل مقام الريادة والتأثير في كل الزوايا والطرق المغاربية. و من ثمة فالحب الالهي برز في القرن الثاني الهجري تقريبا، وقبله كان الناس يترددون في قبول كلمة حب مسندة الى الله. و كانت الحياة يحركها عامل الخوف من الله و من عقابه ، لكن أول من شق هذه الطريق هي رابعة، كما يجمع المؤرخون على ذلك، ثم أخذ هذا الحب يأخذ ملامحه و قسماته ، لكن فيما بعد أخذ أبعادا عرفانية و فلسفية معقدة، مثل ما رأينا عند الحلاج و ابن الفارض وابن عربي.. و الحقيقة الأخرى التي لامسناها في هذا المبحث هي صعوبة تعريف مفاهيم الحب و الحب الالهي و التصوف.و الحب الإلهي موضوعه هو منتزع بين حب ناجم عن نعم الحق و آخر عن مطالعة الصفات الإلهية ، و جمال الذات الإلهية ، وبالتالي الفناء و الشهود و الحلول؛ إن الحب الإلهي أخيرا يجد لنفسه تأصيلا أصيلا من القرآن والسنة والآثار...لكن تناولاته تتلاقى حينا وتتمفصل أخرى من محب إلى آخر في إطار ما نتناوله من تجارب صوفية متفلسفة...
tify]
المبحث الثاني: موضوع الحب الالهي في الكتابات الأندلسية: